بنسامح درويش - الاحتفـــال

-1-
.. وبالرغم من كل ما حدث سأحتفل هذا المساء .
سأشعل ما تبقى في طويتي من يمام ، وأهز أغصان الذات لأتفقد عصافيري التي أحسست أنها تناقصت بشكل ملحوظ منذ أن حصل ما حصل.
سأتعرى وأترك للسليقة تفصح عما تكلس – بفعل ما حدث – في خلجات الروح من فرح ومسرة : أصفق وأرقص وحيدا مثل إله مخبول زاهد عن نصيبه في الخلود .. مثل يعسوب مدلل.
نعم . سأحتفل الليلة وليس غدا، فقد كنت مصمما على ذلك حتى قبل أن يقع ما وقع، فالطبيب نفسه قد اعترف لي أن أمي هي " نجمة " وليس غيرها، كما أكدت لي الممرضة ببذلتها البيضاء أن الإنسان بطبعه مفطور على الفرح والاحتفال ، وبعيد عن هذا كله، فالأمر لا يهم أحدا سواي..
-2-
سأزين نبضات الوقت بإيقاع يناسبني أكثر، وأقطع دابر الكآبة من مسام الفضاء ، وأعتبر أن كل ما وقع هو محض كابوس، وأغسل صوتي بتلك الأغاني الدفينة.. سأعقل أحزاني الكبرى – كالإبل – في وهدة من صحرائي القائضة وأزج بالأحزان الصغيرة جملة إلى زريبة النسيان. سأطرد من غرفتي وبكل صرامة كل ما من شأنه أن يذكرني بما حدث.
سأفتح النافذة على مصراعيها وأصيح في الناس أن احتفلوا، احتفلوا ، إن الاحتفال حق وليس امتيازا ، احتفلوا بأنفسكم على الرغم من كل شيئ، دربوا أطفالكم على الاحتفال .. احتفلوا لا تنظروا إلي هكذا باستنكار وبلاهة..
سأصيح في الناس وأحرضهم على الاحتفال، ثم أغلق النافذة بعنف في وجه المارة الذين سيكونون – حتما – قد تجمهروا فوق الأرصفة وفي وسط الطريق اعتقادا منهم أنني سأنتحر ارتماء من نافذتي في الطابق الثاني سيما وأن بعضهم ممن يعلمون ما حدث ، سيتولون ترويج كل التفاصيل بسرعة مفرطة. أما أنا فسأخيب ظنهم وأعود إلى طقوسي الخاصة ، أؤثث فضاءات الغرفة استعدادا للاحتفال: هنالك أقواس من جريد الذكريات. هناك ضحكة طفلة ، هنا ، حيث سأجلس من حين لآخر طبق مليء بفاكهة العبث. هناك مزهرية الطفولة . هنا – إلى جانبي- قبلة همجية. هناك – قبالة الساعة الحائطية- إكليل من الأحلام الموقوفة التنفيذ. وهنا بباب القلب هدهد.. ألخ . وسترون بأمهات أعينكم أنني متمسك برغبتي هذه، وسأشرع في الاحتفال أثناء تلك اللحظات التي تفصل الليل عن النهار، تلك الدكنة الأخاذة، تلك العتمة الخفيفة الخلابة التي تستطيع أن تؤهل المرء للغوص في أي شيئ شاء ، وبإمكانكم أن تراقبوا ذلك من نوافذكم، أو من خلال مجيئكم إلى عين المكان، للتتأكدوا بأنفسكم ، أما الآن فليس لدي مزيد من الوقت أنفقه في الثرثرة معكم ، سأتبضع من السوق السوداء، وأعود على عجل لأضع الترتيبات النهائية لاحتفالي..
-3-
بشرة المساء تتقيّح شيئا فشيئا. الشمس تتورّم تدريجيا في انسحابها نحو المغيب. التباس الرغبات. ذبول البنفسج في مزاهر الكيان. اختناق المواويل في سراديب الجسد الضئيل. سيادة الندم. نزيف الحقارة . سقوط الوجود في حمإ العدم . صرير الضياع . جمود الفكرة في نقطة ضيقة جدا بين الوهم والحقيقة. نحل الفرح يذوي في رحاب الروح كالزبيب.. أجرجر هيكلا خربا وفي رأسي طعان حاد. أتعثر بالشباك المنشورة على الرصيف، أتنشق رائحة الميناء بعمق وشهية. أراقب – بولع –اهتزاز قوارب الصيد الرابضة المشدودة بالحبال إلى حلقات من حديد مثل ثيران منهكة. أنتبه إلى ريشة بيضاء. بيضاء ومغرية. التقطها بخفة مثلما يلتقط الطفل درهما عثر عليه في طريقه إلى المدرسة. تشتعل الفكرة في رأسي . أجمع باقة من ريش النوارس هذا. أطيش على الشاطئ الحجري أجمع باقتي ريشة ريشة : سأحتفل الليلة على الرغم من كل ما حدث . سأرقص و أرفع باقتي عاليا، عاليا جدا مثل منتصر، وأفتش بين تجاعيد الليل عن نجوم ضاعت مني..
-4-
وقد جاء في محضر الشرطة على لسان السيد " بصيص" نفسه: " بعد عودتي من الميناء فوجئت بجمهرة كبيرة حول منزلي، فتسللت بلهفة بين الواقفين وأنا أحمي باقتي بكل ما علمني الزحام من حذق، حتى وقفت بعين المكان، فأُخبرت ُ بأنني انتحرت ُ ، وبأنني ارتميت في لحظة هيجان من نافذتي في الطابق الثاني، فوقع رأسي على حافة الرصيف، فتناثر دماغي ، وتكسرت عظامي، وسال دمي مدرارا.. ومع ذلك فإن يدا شدتني من ذراعي، وجذبتني بقوة حتى سقطت باقتي من يدي، فتهافت على ريشها أطفال الحومة وتسللوا كالفئران بين ثنايا الحشود الواقفة في وجوم".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى