أدب أندلسي صلاح فضل - الخرجة الرومية

ظلت هناك مشكلة مستعصية في الموشحات الأندلسية الأصيلة، وهي أنها مبنية على مقطع غنائي، مكتوب غالبا باللغة الرومانثية، أي القشتالية القديمة التي تعد أصل الإسبانية المعاصرة، ويطلق عليها عادة الرومية، وهي الخرجة أي القفل الأخير من الموشحة. وكان من المعتاد في المصادر العربية أن تكتب طبعا بالحروف العربية، فيحرفها النساخ الذين يجهلون الرومية، ويتم تداول كتابتها من تحريف إلى آخر حتى تفقد علاقتها بالأصل ويتعذر التعرف عليها. وجاء المستشرق الإسبانى الكبير “جاريا ماركيز” (1905 ـ 1990) فعثر على عدد وفير منها وفك طلاسمها وأرجعها إلى أصولها الإسبانية، وسنفيد من أبحاثه في هذا الصدد بإذن الله.

لكننا نستكمل الآن قراءة موشحة “راحة الأديب” للكميت البطليوسي، ونرى فيها نموذجا لهذه الخرجات الرومية التي بقيت معماة نسبيا للتحريف الذي أصابها، والثالث منها يقول:
دون ما أريد/ من وصل الضنين
ضعف ما يزيد/ على حرب صِفّين
وصله بعيد/ فمن أين يدنيني
وهو كالحروب/ بوصل عسير
مضرم هياجه/ بنار الشجون

والشاعر لا يزيد في هذا عن تشبيه وصل الحبيب باجتياز أتون الحرب الضروس، مثل موقعة صفين التي جرت للإمام علي، فيثير بذلك شجونا تاريخية تتجاوز بكثير هياج المشاعر العاطفية التي يريد وصفها، ثم يقول:
زار في الظلام/ وقد زال مصباحي
إذ شكا غلامي/ ببعد الصباح
وهو بالمدام/ يروم ارتياحي
قام كالقضيب/ من تحت ديجور
جاعلا سراحه/ من وجه سبي ديني

ونلاحظ على المقطع نفسا سرديا طريفا، فزيارة الأحبة في الظلام، وشكوى الغلام من طول الليل وهو يقطعه بتقديم الراح للشاعر، ونهوض المحبوب بقوامه الفارع وشعره الأسود ووجهه المضيء كلها عناصر سردية تعطي مذاقا خاصا للغزل الأندلسي، لكن الخرجة الرومية اللطيفة التي توظف في ختامها جزءا من أغنية سائرة على الألسن هي التى تؤطر فن الموشحات وتمنحه شخصيته المميزة، يقول الشاعر:
بأبي بخيلة/ هي الشمس في الطلعة
أقبلت بحيلة/ وقولة بدعة
دون ما وسيلة/ تسائل في الرجعة
فإن عندي حبيبي/ شياش سبطور
طوهيده سماجة/ امش أدونون

والبيتان الأخيران محرفان عن الإسبانية القديمة، فكلمة “فان” صحتها “بن” أي تعال، و”شياش” تكتب بالسين ومعناها “لتكن” ولم أعرف أصل كلمة “طوهيدة”، وفي رواية أخرى “طرهيرة” و”امش” محرفة عن “است” بمعنى “هذا” ولعل معنى البيتين يصبح:
“تعال عندي حبيبى/ لتكن دائما رفيقي
وتعفيني من سماجة/ ذو النون هذا”

وهو معنى يختلف عما اجتهد في استخلاصه جامع ديوان الموشحات في تعليقاته، وإن لم يكن مؤكدا نتيجة لما اعترى الكلمات من تحريفات متتابعة.



د. صلاح فضل

صلاح فضل.jpg
صلاح فضل.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى