أدب أندلسي صلاح فضل - الأعمى التطيلي

عندما نبلغ عصر المرابطين بالأندلس نهاية القرن الخامس الهجري ندرك ذروة ازدهار فن التوشيح، وبروز كبار أعلامه الذين يجمعون بينه وبين القصيد المنتظم وفي مقدمتهم الأعمى التطيلي (485 ـ 525 هـ) الذي توفي قبل تجاوز الأربعين، ومع ذلك خلف ديونا هاما يتضمن عددا كبيرا من الموشحات المتميزة، ويكفي برهانا على تفوقه الشعري ما يذكره رواة الأدب من أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد منهم قد صنع موشحة وتأنق فيها، فقدموا الأعمى التطيلي للإنشاد، فلما افتتح بموشحته الشهيرة:
“ضاحك عن جمان/ سافر عن بدرِ
ضاق عنه الزمان/ وحواه صدري”

خرق الشاعر ابن بقي موشحته، وتبعه الباقون يأسا من مجاراته. ويصف لسان الدين بن الخطيب تأثيره في هذا الفن بقوله: “صار توشيحه مثلا سائرا في الناس”، كما يصف بعض موشحاته بأنها “مذهبة” قاصدا تمييزها كما وصفت بعض القصائد المشرقية بالمعلقات والمذهبات، ولكننا نعود إلى الموشحة السابقة لنجد الشاعر يقول بعد المطلع:
“آه مما أجده/ شفّني ما أجدُ
قام بي وقعد/ باطشٌ متّئدُ
كلما قلت عِدْ/ قال لي: لا أعدُ
وانثنى خوط بان/ ذا مِهزٍّ نضرِ/ عابثته يدان/ للصبا والقطرِ”

وسر الإتقان في هذه الأبيات الغزلية هو اقتصاد التعبير ولطف الإيقاع والتصوير، فالمنظومات في هذا الفن قطع غنائية في المقام الأول، وقد كان بعض الوشاحين ينشدونها في الأسواق على آلات وترية، وكلما اتسمت بالسهولة والعذوبة وحلاوة النغم وسرعة الإشارة للمعنى المقصود كانت أنقذ إلى القلب.

ولعل شوقي الذي كان يجيد حفظ الروائع قد استفاد من البيت الأول عندما قال في “نهج البردة”:
“يا لائمي في هواه، والهوى قدر
لو شفّك الوجد لم تعزل ولم تلِم”

لكن هذا المسّ من الهوى عند التطيلي لا يلبث أن يقيمه ويقعده، فهو صادر عن حبيب باطش متجبر، لكنه متريث متئد، فالمفارقة واضحة بين الوجد والوجود، والقيام والقعود، والبطش والتؤدة، والطرافة اللعوب في الرد على طلب الموعد بالإنكار، والدل في الانصراف مهتزا مثل غصن البان النضر، في لحظة معابثة بلمس اليدين تتمثلان في ريح الصبا وقطرات المطر، وهذا من أجمل ما يجود به خيال مكفوف، لكنه مطلق السراح في التأمل، ثم يقول:
“ليس لي منك بد/ خذ فؤادي عن يد/ لم تدع لي جلد
غير أني أجهد/ مكرع من شهُدْ/ واشتياقي يشهد
ما لبنت الدنان/ ولهذا الثغرِ/ أين محيا الزمان/ من حميا الخمر”

فتتراوح القافية بين النغمات، وتتراوح المفردات بين الطبيعية ومفاتن الجمال والفن، وهي مفردات يتم خلق صور فنية بها تلعب فيها الأصوات والإيحاءات في إثارة الخيال وتحريك العواطف ما يتجاوز مجرد الإشارة للواقع الحسي لتقدم عالما فنيا يختلف في قوانينه عن العالم الواقعي ويسمو عليه.



صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى