أدب أندلسي صلاح فضل - وستنسى ذكري

أما بقية هذا الموشح الذي بهر الشعراء وأعجزهم عن منافسته، فمزقوا موشحاتهم كما قطعت النسوة أيديهن افتنانا بجمال يوسف، فيقول فيه الأعمى التطيلي، ويبدو أن لمحنة العمى أثر كبير في توهج قدراته وارتفاع مستوى حساسيته للنغم والإيقاع والصور الحسّية:
“بي هوى مُضمرُ/ ليت جُهدي وَفْقُهُ
كلما يظهر/ ففؤادي أُفْقُهُ
ذلك المنظر/ لا يُداوى عشقُهُ
بأبي كيف كان/ فلكيّ دُرِّي
راق حتى استبان/ عذره وعذري”

لصيف هواه المكتوم الذي يفوق جهده في إخفائه، فإذا ظهر كان فؤاده هو الفضاء الذي يسرح فيه، والحب بالنسبة للشاعر المكفوف منظر لا يداوي عشقه، فهو حِسِّي وحتمس ومستحيل، ويرتفع إلى مستوى الظواهر الفلكية، فيصبح الحبيب كوكبا دريا يموج في السماء، ويرق ويصفو حتى تتجلى معجزته للعالمين، ويبين عذره في السموّ وعذر العاشقين الصب في التعلق به.
“هل إليك سبيلْ/ أو إلى أن أيأسا
ذبتُ.. إلا قليل/ عبرة أو نَفَسَا
ما عسى أن أقول/ ساء ظني بعسى
وانقضى كل شان/ وأنا أستشرى
خالعا من عنان/ جزعي وصبرى”

ربما يرتفع الحب هنا إلى مرتبة رمزية، يبوح فيها الشاعر بأشواقه إلى ما لا يصرح به، فيتساءل: هل هناك سبيل للظفر بما يصبو إليه أو حتى اليأس منه، فاليأس كما يقال إحدى الراحتين، ثم ليصف بشكل طريف ما يعانيه من الصبابة بصورة عفوية بسيطة “ذبت إلا قليل/ عبرة أو نفسا” ولأنه يبغى شيئا يشبه المستحيل كيف لَهُ أن يثير حفيظة الناس أو سخريتهم، فما عساه أن يقول وهو سيء الظن بكل الأماني التي يعبر عنها بعسى. ثم ينقضي كل شأن وهو لا يزال راغبا فيما لا يقوى على التصريح به، مجاهدا نفسه كي يتخلص من تراوحه بين الجزع من ناحية والصبر من ناحية أخرى.
ما علي من لوم/ لو تلاهى عني
هل سوى حب ريم/ دينه التجني
أنا فيه أهيم/ وهو بي يغني
قد رأيتك عيان/ ليس عليك ساتدري
سايطول الزمان/ وستنسى ذكري”

هل كان الشاعر يشتاق للنور، ويخشى لوم من يعذله على هواه؟ وهل من يتمنى شيئا غير حب الحسان يلقى من الناس سوى التجني والافتراء، مع أنه يهيم بأشواقه التي تغني له، وتعده بأن يرى عيانا ما يبغيه. ثم تأتي سين الاستقبال المدودة على طريقة اللهجة الأندلسية لتضفي على الأبيات مسحة من الطرافة واللطافة، وهي تنشد للزمان الذي سيمر وللذكرى التي طالما خشى الشعراء والمبدعون من أن تذهب في طي النسيان وهم يتحرقون شوقا للنور والخلود معا.

صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى