أدب أندلسي صلاح فضل - ماء ونار

للأعمى التطيلي موشح آخر يجرب فيه لونا من الترجيع، بكلمات تصلح للجوقة كي ترددها، بما أطلق عليه العروضيون مصطلح “التذييل” وفيه يتجلى الحس الموسيقي الذي يعتمد عليه المؤلفون والملحنون في اختيار المفارقات اللافتة والإيقاعات المنظومة، فالتقابل الدلالي بين الأطراف يضفي على النغم الصوتي الخارجي انسجاما معنويا يعزز الإيقاع الداخلي للأبيات، يقول الشاعر:
دمع سفوح وضلوع حرار/ ماء ونار
ما اجتمعنا إلا لأمر كبار

فحالة العاشق تتجلى في الجمع بين النقيضين: الماء والنار، الأولى في الدمع المسفوح والثانية في الوجد الحارق، وهما لا يلتقيان سوى في كبريات الأحداث، لكن المنظومة القديمة أحفل بالشعرية وأدعى للاعجاب لكثافتها الدلالية. ثم يقول في المقطع الثاني، وهو سداسيّ الأشطار بغصنه وقفله وذيله:
“بئس لعمري ما أراد العذول
عمر قصير وعناء طويل
يا زفرات نطقت عن عليل
ويا دموعا قد أصابت مسيل
امتنع النوم وشط المزار/ ولا قرار
طرت ولكن لم أصادف مطار”

يمضي الشاعر في تشغيل لعبة التقابلات بطريقة تلقائية محببة، فما يريده العذول في حقيقة الأمر إنما هو اهدار لفرصة العمر، فهو عادة قصير لا يتسع لكثير من المسرات ـ عاش التطيلي أربعين عاما فحسب ـ بل هو مفعم بعذابات السنين، كما يقوم الشاعر بتوظيف صيغ النداء بطريقة إنشائية لافتة، فهو يستنجد بزفراته التي تشفّ عن قلب أضناه الهوى، كما ينادي دموعه التي تدفقت في مسيل عارم لكي يشكو لهما امتناع النوم عن عينيه، وابتعاد أمل اللقاء بأحبابه. لاحظ معي هذا السبق الاشتقاقي الطريف في نهاية المقطع، حيث يتخيل الشاعر أنه قد أوشك على الإقلاع للحاق بالحبيب، ولكنه لم يعثر على “مطار” يطير منه، وأحسب أن هذه أول مرة تعرف فيها العربية كلمة “ مطار ” في هذا الوقت المبكر في القرن الثالث عشر الميلادي. ثم يقول:
“يا كعبة حجت إليها القلوب/ بين هوى داعٍ وشوق مجيب
دعوة أواه إليها منيب/ لبيك لا ألوى لقول الرقيب
جُد لي بحج عندها واعتمار/ ولا اعتذار
قلبي هَدْىٌ ودموعي جمار”

براعة الحالة الشعرية تجعل من مكان الحبيب كعبة يحج إليها قلبه، يحدوه الهوى ويجيبه الشوق، واستخدام المعجم الديني في الغزل الذي أمعن فيه الرومانسيون حديثا فيه تبادل للأدوار، فكم استخدم المتصوفة لغة العشاق في أحوالهم، فالعاشق ناسك لا يكف عن التبتل والتوبة، وهو يرفع صوته بالتلبية العلنية دون أن يأبه بالرقباء، كما أنه يريد زيارة مضاعفة مثل الجمع بين الحج والعمرة ولا يقبل عنها عذرا، وهو يقدم قلبه هديا للمحبوب ودموعه تصبح حصى للرجم، فلنتأمل هذه المجازات المركبة التي تنقل طقس الحج بكامل شعائره إلى مجال العشق، ثم لنتابع قراءة البقية فيما بعد.




صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى