أدب أندلسي صلاح فضل - فائض الإيقاع

تهيمن الوظيفة الشعرية على اللغة عندما تصبح اللغة غاية في ذاتها، وليست مجرد وسيلة للتعبير والتواصل. وإذا كان مناط الجمال في الشعر يتعلق ببساطة بالإيقاع الموسيقي من ناحية والتخييل التصويري والحرارة الوجدانية من ناحية ثانية، مما يخلق رؤية طازجة للوجودان فإن طغيان العنصر الإيقاعي على منظومة الموشحات المرقصات قد يحرمها نسبيا من توازن الموسيقى مع التصوير ولمسات الذكاء العاطفي، خاصة عندما يصل الإيقاع فيها إلى درجة الإشباع المفرط، كما نلمس في موشحة ابن القزاز على الرغم من افتتاننا بها، وقد يتضح ذلك من المقطعين الأخيرين حيث يقول:
“قاتلي/ احقن دما/ من قد غدا/ مُلحدا

واصلي/ كنت فما/ عما بدا/ قد عدا
ساءلي/ مستفهما/ جيش الردى/ لمْعدا
لا سؤال/ عن مبتلي/ ينحت في صامت
لينال/ ما أملا/ والأمر للشامت”

فهو يخاطب المحبوب، باعتباره قاتله عشقا، يطلب منه أن يحقن دمه بعد أن أودعه في اللحد. والمفارقة الواضحة في الدلالة مبنية على التلاعب بالموت الحقيقي والمجازي، على أن طوق النجاة دائما هو الوصال، وقد كان المحبوب يبذله فيستحق أن يسمى واصلا، فما الذي يجعله يعدل عن ذلك، ولنتأمل الصيغة الدارجة “ما عدا عما بدا”، ثم يتصور الشاعر أن شخصا يسأله عن سبب اعتداء جيش الموت عليه، ليرد بأن المبتلي لا يسأل فهو ينحت في الصخر الصلد حتى يظفر ببغيته ولا يشمت فيه عدو.

وإذا كنا قد أوضحنا من قبل فائض الإيقاع الموسيقي المتدفق من هذه البنية في تنضيد الكلمات وترصيع الجمل على المستويات الأفقية والرأسية فإن الإغراق في هذه التقاسيم قد أدى على ما يبدو إلى هشاشة المتخيل وفتور التوهج العاطفي في الأبيات، حيث يصبح الإكثار من الصور البديعية والتقسيمات اللفظية هو مركز الثقل في النص، ويعمد الشاعر إلى صيغ جارية على الألسن بعد قلبها لتكتسب قدرا من انحراف التعبير الشعري المثير للدهشة، ثم يقول في المقطع الأخير:
“كم يتيه/ وكم وكم/ يأبى الجوى/ أن يحول
أرتضيه/ وإن حكم/ حكم الهوى/ في العقول
قلت فيه/ والحب لم/ يرض سوى/ ما أقول
الجمال/ وقف على/ ظبي بني ثابت
لا زوال/ في الحب لا/ عن عهده الثابت”

المحصلة الدلالية لهذه الأبيات محدودة للغاية، ومحصورة في الإطار التقليدي، فالمحبوب يدلّ بتيهه على عاشقه الذي يكتوي بحرقة وجد لا يزول، ومع ذلك فهو راض بحكم الهوى، يقول فيه قولا محكما يسير مثلا في الخرجة الأخيرة، فالجمال وقف على هذه الفاتنة التي تنتسب إلى بني ثابت، بقدر ما أن حبه لها ثابت على مدار الأيام، ومع أن فائض الإيقاع في هذه القطعة لم يربك التعبير فقد استأثر ببؤرة الاهتمام والتركيز في النسق الذي أصبح مطربا مرقصا لكنه بعيد عن إثارة التأمل والتفكير.


* الاتحاد


صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى