أدب أندلسي صلاح فضل - ليت شعري

بقيت أبيات قليلة من موشحة ابن سهل التي اتخذناها نموذجا للموشحات الأندلسية، وأتاح لنا كتاب الإفراني “المسلك السهل” في شرحها فرصة تأمل دقائقها، وكلما قاربنا نهايتها كان إيقاع القراءة وئيدا، ويقول فيها ابن سهل:
ليت شعري أي شيء حرما
ذلك الورد على المفترس

إتماما للفكرة التي وردت في الأبيات السابقة، وهي أن لحظه هو الذي أنبت الورد في خد المحبوب، ويقول الشارح إن معنى “ليت شعري” هو “ليت علمي” إذ يقال: شعرت بكذا أي علمته، ولكن الفرق كبير بين الشعر والعلم، وهي صيغة متداولة نفهم منها التساؤل الممتزج بالتعجب والاستنكار، أي ما الذي يحرم جنى الورد على غرسه، وهنا يتصدى الشعراء والفقهاء للرد على هذا التساؤل بظرف بالغ يكشف عن طبيعة الثقافة العربية في مرحها وحريتها، واتساع هامش العبث الماجن فيها، على أن ذلك جزء حميم من تراث السلف الذي يجهله أو يتجاهله من يريدون الاحتكام للعصور القديمة في توجيه حياتنا المعاصرة بمعاندة منطق التطور ومقتضيات التقدم؟ فيستحضر الإفراني قول الشاعر المتصوف الفذ ابن الفارض في المعنى ذاته:
زرعت باللحظ وردا فوق وجنته
حقا لطرفي أن يجني الذي غرسا

ثم يتقدم القاضي عبد الوهاب خطوة أخرى في تحديد ما يتطلبه حق الزراع فيقول:
نزرع وردا ناضرا ناظري
في وجنة كالقمر الطالع
فلم منعتم شفتي قطنة
والحكم أن الزرع للزراع

فتصبح المسألة الغزلية قضية فقهية، فالحكم فيها ـ وهو عادل ذو حس تقدمي واضح ـ أن الزرع للزراع؛ أي أنه ليس لمالك الأرض، فالأرض حق لمن يزرعها، وما دام الأمر كذلك فورد الوجنات يصبح قطفه المجازي بالشفاه عن طريق التقبيل من حق العشاق، لكن بعض الفقهاء الآخرين يمعنون في الرد على هذه الدعوى بمنطق شرعي آخر فيقول أحدهم:
سلمت أن الحكم ما قلتم
وهو الذي نص الشارع
فكيف تبغي شفة قطفه
وغيرها المدعو بالزارع

والطرافة تكمن في هذا التواطؤ الجميل على اعتبار الصورة الشعرية الأولى مجالا للسجال الفقهي الرصين مع مجونها وتحررها، فبمقتضى القاعدة الفقهية يصبح النظر، وهو المسؤول عن احمرار خد المحبوب أكملني عنه بزراعة الورد هو الموكل بقطفه، وهذا ما يتصدى لتوضيحه الإمام الحافظ أبو عبد الله القنس فيقول:
في ذا لذي قلتم مبحث
إذ فيه إيهام على السامع
سلمتم الحكم له مطلقا
غير ذا نص عن الشارع

يعني أنه يلزم على قول الشاعر أن يباح له النظر مطلقا، والشرع خلافه، ثم يتولى شاعر فقيه آخر الإجابة عن المسألة من ناحية أخرى فيقول:
قل لأبي الفضل الوزير الذي
باهى به مغربنا الشرق
غرست ظلما وأردت الجنى
ومالغرس ظالم حق

فيعود بالمسألة إلى أصل النظر المباح من غيره، والمهم في هذا الصدد أن بيت ابن سهل الجميل قد عكف عليه الفقهاء والشراح بمزاج ظريف ووعي طريف وأدوات فقهية يحاورونه، ويستمتعون عقليا ووجدانيا بمطارحته وملاعبته والتعليق عليه.



صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى