أدب أندلسي صلاح فضل - هي في خديه برد وسلام

بقيت أبيات قليلة من موشحة ابن سهل، باعتبارها نموذجاً لتوليد السلالات الشعرية، وأفدنا إلى درجة كبيرة من كتاب كلاسيكي رصين وضع خصيصاً لشرح هذه الموشحة هو “المسلك السهل” للعالم المغربي الإفراني، حيث يستدعي كل بيت إلى ذاكرته عوداً وفيراً من النصوص المشرقية والمغربية الكاشفة. يقول ابن سهل بعد ذلك:
أنفذت دمعي نار في ضرام
تلتظي في كل حين ما يشا
هي في خديه برد وسلام
وهي ضر وحريق في الحشا

أي أنه في ضلوعي من لواعج الشوق ناراً مؤججة أحرقت ضلوعي وأفنت دموعي إذا جففت حرارتها ماء جفوني. ويقول الشارح إن الشعراء قد أكثروا في هذا المعنى، لكن ما راقه هو ما قاله المالقي:
كان فؤادي وطرفي معا
هما طرفا غصن أخضر
إذا اشتعل النار في جانب
جرى الماء في الجانب الآخر

ويبدو أن مفارقة الماء والنار التي ترد كثيرا على الأذهان هي التي تجعله يستعرض عددا من المفارقات الشعرية الطريفة باحثا لها عن مصطلحها البديعي مما لا يعنينا الآن، ويتوازى هذا مع مفارقات أخرى مثل العداوة والصداقة، فيقول الطفرائي:
من خص بالشكر الصديق فإننى
أحبو بخالص شكري الأعداء
جعلوا التنافس في المعالى ديدنى
حتى امتطيت بنعلي الجوزاء
ونعوا إليّ معايبي فحذرتها
ونفيت عن أخلاقي الأقذاء

فإذا عدنا إلى أبيات الموشحة وجدنا أن البيت الثاني يتصل بفعل النار التي اشتكى من لذعها لفؤاده، إذ تكون في خدود المحبوب بردا وسلاما كأنها نار إبراهيم الخليل، بينما هي في شغاف قلب الشاعر حريق يشعل أحشاءه، فتجتمع في آن واحد بين النفع والضرر والحرارة والبرودة.

وكعادة الشارح يذكره ذلك بأبيات أخرى، منها ما قاله أكبر شعراء مصر في العصر الوسيط، وأهم ناقد للموشحات الأندلسية والمغربية وهو ابن سناء الملك إذ يقول في إحدى غزلياته:
دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى
فقبلت في الخدين تسعين أو إحدى
وأبصرت في خديه ماء وخضرة
فما أملح المرعى.. وما أعذب الوردا
تلهب ماء الخد أو سال جمره
فيا ماء ما أذكى ويا جمر ما أندى
وفي القلب نيران الخليل توقدت
وما ذقت منها لا سلاما ولا بردا

وهنا يبدو أن عملية التوالد التي نشير إليها في السلالات الشعرية لم تكن تقتصر على الموشحات فحسب، بل كانت تمتد إلى النصوص كلها، وبالقدر الذي تمتاح فيه من معين الذاكرة التراثية السابقة كانت تمد الذواكر اللاحقة بصورها ولفتاتها الذي يفتن بها من ينخرط في لعبة المعنى الشعري، فيكون على القارئ الفطن أن يتنبه إلى سياقات النصوص ومساراتها وتحولاتها ومداعباتها، لا بحس الشرطي، بل يوعي المتلقي البصير.


صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى