نقوس المهدي - الأدب المهجري.. تاريخه خصوصياته ومظاهره

لا يمكن تحقيب الأدب ودراسته بحسب التقسيم المرحلي فحسب، بل ينتظم أيضا بحسب الحركات والمدارس الأدبية، لأن التاريخ عبر مساره الطويل عرف العديد من موجات النزوح الفردية والجماعية.. وبالتالي فقد عرف ميلاد العديد من المدارس الأدبية وخصوصياتها الجمالية.. من هذا المنطلق يمكننا الحديث عن أدب مهجري قائم بذاته.. لكن أن تكون له مدرسة فنية تميزه وتؤرخ له فذلك لم يبتدئ إلا مع موجات الهجرات الجماعية من الشام إلى الأمريكيتين.. هربا من الخدمة العسكرية والاضطهاد والقهر والاستبداد والظلم الاجتماعي والاضطهاد الديني والعرقي وضيق الحال.. بين الفترات الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر إلى حوالي النصف الأول من القرن العشرين، بحثا عن سماوات أخرى اقل ضيقا وأكثر رحابة وحرية وانطلاقا، وكان لا بد أن يحمل هؤلاء المهاجرين - الذين تجاوز عددهم بحسب التقديرات حوالي مليوني مهاجر - إلى الضفاف الأخرى بدل الأمتعة أمانيهم وثقافاتهم وأحلامهم الواسعة التي لا ضفاف لها، مبشرين بالتعايش والتسامح ونشر حوار الحضارات وروح المثاقفة، الشيء الذي حدا بالرئيس الأميركي روزفلت إلى مخاطبة جبران خليل جبران بتعبير جميل وجد معبر: " أنت أول عاصفة انطلقت من الشرق واكتسحت الغرب، ولكنها لم تحمل إلى شواطئنا إلا الزهور..

كان أدباء المهجر على اختلاف مشاربهم وإثنياتهم وتطلعاتهم ومذاهبهم الفكرية والعقدية والدينية يوحدهم عشق الحرف وصدق الانتماء للأرض والوطن والآمال الجمعية العريضة إلى التحرر وحرية الإبداع والمعتقد،‮-;- وكان لزاما أن يحملوا معه لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم ويكتبون أدبا عربيا متأثرا طبعا بما هو رائج في تلك المجتمعات التي غطت كامل تراب الأمريكيتين، وكان صعبا أيضا أن لايتم ذلك الانصهار السريع للجاليات الممزوجة بلحام العروبة والدم والوطن والدين في تلك المجتمعات، مما سيصنع منها شبه شعب متحد في مجتمع جديد " غريب الوجه واليد واللسان.. " كما يقول المتنبي واصفا اغترابه في بلاد فارس.. حتى أننا نستطيع الجزم بأن كل التحولات العظيمة التي طرأت على تاريخ الأدب والفن العربيين تمت علي أيدي هؤلاء الأدباء المهاجرين بحكم تأثرهم بالبيئة الامريكية وبعطاءات المدارس الرومانسية والرمزية الغربية من جهة، فظهرت تبعا لهذه الطموحات والتحولات العديد من المدارس والمجلات الأدبية، وعرفت الساحة الأدبية أنماطا لم يعهدها الأدب العربي من قبل تجلت في بعض المحاولات النّثرية وإرهاصات الكتابة الروائية والقصصية لذا هذا الجيل الأول، ونشأت نظريات ورؤى تجديدية انعكست ايجابيا على مستوى الشكل والمضمون والروح، وبالحركات التجديدية لكل من مدرسة الديوان وشعراء مدرسة ابولو وغيرهم من الشعراء المجددين.. في وقت كان الأدب العربي يعاني من يبس الركود والتقهقر، والنهضة العربية في بداياتها المبكرة تتلمس بالكاد طريقها، وتعيد باستحياء إنتاج وبعث نصوص تراثية هجينة..

إن مفهوم الأدب المهجري وتداعياته وشجونه ومواضيعه وخصوصياته يكاد يكون قاسما مشتركا في كتابات جميع الأدباء والمثقفين المغتربين، وحتى بالنسبة للسلالات اللاحقة في ما يطلق عليه أدب الدياسبورا.. والتي تراوح بين انتماءين ووطنين وجنسيتين وهويتين وثقافتين..

هذه البينونة هي التي تمنح الأدب المهجري هويته وخصوصياته وقيمته الجمالية بين الآداب والفنون الأخرى، والثقافات المتنوعة والحضارات. وتسعى باستماتة قصوى إلى مقاومة الاستلاب والتغريب وتهديد الهوية..

فهذا الشاعر العباسي أبو الحسن علي ابن زريق البغدادي يصف في قصيدة الفراقية الشهيرة لوعته وحسرته على فراق أهله وزوجته التي هاجر من اجلها طلبا لسعة الرزق في بلاد الأندلس الذي اعتبر الملاذ الأول الذي استقبل العديد من الشعراء في تلك الأحقاب:

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً = بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي = صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً = وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ = وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

أما قبل.. وتحديدا بالقرن الثامن نصادف أبياتا لعبد الرحمن الداخل تقول بعد أن نظر إلى نخلة:

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة = تناءت بارض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى = وطول التنائي عن بيتي وعن أهلي

ابو تمام يقول:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا = وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة = وعلم وآداب وصحبة ماجد


***

- أدب المهجر نظرة في المصطلح

اقترن أدب المهجر في تاريخيتة بالقمع السياسي وبالعقم الاقتصادي
ذلك انه حينما يخطر أدب المهجر على البال تخطر معه كمهاد تلك الحكايات الممزوجة بالاغتراب عن الأوطان والتي يعكسها الكثير من الشعراء في قصائد شعرية، وأسسوا العديد من الأندية الثقافية والمجلات والصحف والصالونات الأدبية كما لو كانوا في أوطانهم الأصلية فبادروا الى تأسيس جمعيات وإصدار صحف ونشرات تحتضن أنشطتهم ومنجزاتهم الأدبية والاجتماعية..

فأُنشِئت سنة 1920 في المهجر الشمالي الرابطة القلمية بنيويورك ورأَسها جبران خليل جبران وكان لسان حالها جريدة السّائح
وفي المهجر الجنوبي أسس الشاعر ميشال معلوف في العاصمة البرازيلية العصبةَ الأندلسية ومجلتها " الأندلس الجديدة "
فيما ظهرت العديد من الأندية والرابطات فأسس أحمد زكي أبو شادي سنة1948 رابطة مينيرفا في نيويورك، وجماعة أبولو، وأسّس الشاعر جورج صيدح الرابطة الأدبية سنة 1949 بالعاصمة الأرجنتينية
لكن الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ظلتا كمدرستين مستقلتين ميلادا ومصدرا لموجة ادبية جديدة أسهمت بطريقة راسخة في النهضة الأدبية العربية واثرت في الادب العربي بشكل واضح وايجابي . تزامنا مع نشوء بعض حركات التجديد التي عرفها الادب العربي وقتئذ..


***

خصائص الادب المهجري

إن أدب المهاجر لا يكاد يختلف من بلد أو من زمن لآخر.. فهو أدب غريب في بلد غريب كما يقولون، إذ يشكل القاسم المشترك فيه الحفاظ على الهوية اللغوية والاثنية، والحنين الى الأوطان، والارتباط بالجذور، وعدم الانصهار الكلي بالثقافات وعادات البلد المضيف، ونشر المبادئ السامية والمثل العليا بين الناس.. كيف ما كان الأمر فإنه لن يمنع من إثارة أسئلة حول تاثير أدب المهجر في الثقافات والآداب الموازية الأخرى التي أثرت على مظاهر حياتهم، وتعرف الغرب عبرهم على الصوت العربي وبدأت ترجمة النصوص التراثية والدينية والفلسفة الشرقية، وكانت تلك الجهود بداية ومدخلا لتجديد الأدب العربي ككل..

ومهما يكن من أمر فانه لا احد يستطيع أن يتصور أن حياة المهاجرين مفروشة بالورود والرياحين.. خاصة فيما يتعلق بالهجرة السرية والمضايقات وسوء استقبال دول المهجر.. إذ يقاسي معظمهم من حياة صعبة محفوفة بالمخاطر والاستلاب الفكري والروحي، فقط تصبح اللغة والخيال الملاذ والمتنفس الذي يوحدهم في الشتات.. ولا غرابة أن تهيمن النزعة الصوفية والنبرة العاطفية المحملة بالحنين والحزن على مجمل إمداداتهم

وإذا كان الاستعمار العثماني وراء النزوح الى الأمريكيتين، فان الاستعمار الجديد الفرنسي والانجليزي كان احد دوافع هجرات من نوع آخر اختلطت فيه الهجرات التقليدية مع مرور الأعوام، بالتهجير واللجوء السياسي والمنافي والدراسة والزواج المختلط والهجرة السرية فرارا من البطالة، والهرب من الاستعمار والقمع الذي تمارسه السلطات البلد.. وكان من المنطقي نشوء آداب مكتوبة باللغة الفرنسية او الاسبانية وبالانجليزية تحت الإكراهات الصعبة للاحتلال وكنوع من الاستلاب اللغوي وكنوع من الانتقام للوطن.. وهذا لا يمنع من القول باحتفاظ العديد من المثقفين العرب المغتربين على لغتهم وأصالتهم وهويتهم خاصة أولئك الذين رمت بهم الأقدار إلى بلاد لايتقنون لغة أهلها.. وأسسوا مجلات ودوريات ومنابر أدبية تتابع تحركاتهم وأنشطتهم الثقافية والعلمية.. ولا نمو بدون جذور كما يقولون، وهذه الجذور هي التي ستصنع فيما سنرى نوعا آخر من أدب المهاجر، لدى الجيل الثالث وما إليه والذي انعكس بشكل بليغ على هذه الآداب واثر فيها بطريقة أو بأخرى..

وسوف تشهد فرنسا على الخصوص ابتداء من منتصف القرن الماضي أي بعد انحسار وانتهاء التاريخ الذهبي للهجرة العربية في الأمريكيتين موجات واسعة من الهجرات وذلك بحكم استعمارها لبلدان المغرب العربي، وفي وجود لغة مضيافة يتقنها هؤلاء الأهالي، الذين اعتبروا من الدرجة الثانية كان لابد أن يكتب هؤلاء المهاجرون بلغة المستعمر ويعبرون بها عن أحاسيسهم وتطلعاتهم وهواجسهم. ونشأ أدب مهجري يتكلم لغة الوطن المضيف لكن بنبرة متوحشة لا تجامل ولا تهادن، وبها الكثير من التحدي للفرنسيين في عقر دارهم..

دون أن ننسى الكتابات التي تطرقت إلى موضوع المهاجرين ومشاكلهم النفسية والاقتصادية والاجتماعية من أثار العزلات والزواج المختلط والاعمال الهجينة التي يقبل عليها المهاجرون.. وما يسببه كل ذلك من شروخ عميقة في الروح البشرية ونصادف في هذا المضمار كما هائلا من البحوث والسرود والبحوث الميدانية والدراسات أهمها على الخصوص أعلى درجات العزلة للطاهر بن جلون وو

عطفا على هذه الظواهر اللسانية يمكننا ملاحظة تداخل عنصرين في هذا السياق " التعدد اللغوي" و"تعدد الأصوات" لدى هؤلاء المهاجرين المتميزين بموقفين اثنين بدن هناك وقلب في الوطن

يعتبر كاتب ياسين الفرنسية بمتابة " غنيمة حرب"، وهو الذي جعل من اللغة الفرنسية سلاحا لمحاربة المستعمر.. على حد تعبيره.. " كان علي أن أتعلم اللغة الفرنسية.. عشت في عدة لغات، كنت في مدرسة فرنسية مع تلاميذ أوربيين وكان علي أن أسافر إلى فرنسا إلى عاصمة الامبريالية وبالمقابل أحسست انه لزاما علي ان أتكلم الفرنسية أحسن من الفرنسيين أنفسهم لإدهاشهم.. وليقولوا هذه هي الجزائر" "

* مالك حداد
" اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر المتوسط وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به بالعربية.. إن الفرنسية لمنفاي"

* أمين الزاوي
"انا كاتب باللغة العربية واللغة الفرنسية مستعمرتي الجديدة"-
- "الكتابة شكل من أشكال المغامرة: هي مغامرة مع المواضيع والواقع واللغة أيضا. تحولي إلى الفرنسية كان إذاً مغامرة. كنت في فرنسا، مدرسا في إحدى الجامعات، وكنت أريد الوصول إلى القارئ الفرنسي، فوجب علي أن أخاطبه بلغته"

بالنسبة لمحمد خير الدين الذي يصف الكتابة باللغة الفرنسية نوعا من "حرب عصابات" داخل اللغة، ولأنه كما يقول: "أنا هنا منذ 1965م لا أحسني منفياً على الإطلاق، لماذا؟ لأن الفرنسيين حين احتلونا، لم يشعروا أنهم منفيون، ولن أذهب إلى حد الادعاء أنني احتل فرنسا"

* يخلص الطاهر بن جلون الذي يعتبر من الجيل الوسط الذي هاجر من اجل الدراسة الى القول:
"ويبدو لافتا في هذا السياق تأثير الهجرات العديدة والمتنوعة التي استقر البعض منها بطريقة بنيوية في البلاد بدهيا. يتقدم التمازج العرقي وتغتني الثقافة بالإضافات والإسهامات الجديدة سواء تعلق الأمر بالموسيقى أو الأدب أو فنون الطعام. لقد انتقلت الهجرة إلى مرحلة أخرى؛ بحيث لم نعد في زمن نزوح قرويين أميين من جبال المغرب والجزائر. اجتمع شمل العديد من الأسر وشهد التراب الأوروبي عددا وفيرا من الولادات. ولا يمكن في هذا الصدد اعتبار الأبناء المنحدرين من الهجرة مهاجرين"

*في رواية الحلم الفرنسي لمحمد حمودان نجده يقول:
""أنا أرفض أن ألعب دور الـعربي المؤدب الذي يتغني طول النهار بـ (قيم الغرب الحضارية)، ب(الديمقراطية و الحداثة) في وجه هذا الشرق (المتخلف والمظلم)، فهناك العديد من الكتاب المغاربة وغيرهم ممن يكتبون بالفرنسية يقومون بذلك باحترافية مدهشة، فهم يتقنون ركوب موجات الموضة والإستجابة لما تنتظره منهم المؤسسة وبعض القراء! في آخر المطاف، يبقى هذا شأنهم وليس شأني"

* يقول رشيد نيني:
"" المكان بدوره ليس رحيما إحساس بالحزن يلفني وأنا أعبر الشوارع. تستطيع أن تقضي النهار كله سائرا في الطريق دون أن تلقي السلام على أحد. عندما تأتي لتعيش هنا يجب أن تكون قد قررت أن تعيش بجذور مقصوفة. مثل النبتة التي تنتزع من تربتها لتستنبت في تربة أخرى"

هناك بالمقابل أدب يصف حال المهاجرين كتبه أبناء مهاجرين يحكون فيه عن أحوال آبائهم ومعاناتهم ومكابداتهم في بلاد الروم، وهذه الكتابات بالرغم من أنها كتبت بعيدا عن تجربة أجواء الهجرة فإنها محملة بالألم والحزن، يقول الشاعر المغربي محمد علي الرباوي في مجمل نصوص " من مكابدات السندباد المغربي"، والذي يترجم من خلاله مقدار تأثره بغربة والده، وما تكبده من معاناة وعنصرية وإقصاء سواء في بلاد الله الأخرى أو في وطنه الذي بخل عليه بقبر يأويه ويستره.. ..
" إلى أبي في أرض الوطن

أَعْرِفُ أَنَّكَ كُنْتَ غَرِيبَا
في أَرْضِ الرُّومِ غَرِيبَا
تَلْتَهِمُ الأَوْرَاشُ دِمَاكَ الفَوَّارَةَ
تَأْتِيكَ مِنَ الأَحْبَابِ رَسَائِلُ
بَلْ تَأْتِيكَ قَنَابِلُ
تَفْتَحُهَا: لِتُحِسَّ الغُرْبَةَ تَقْطَعُ أَوْصَالَكَ
فَٱ-;-لْحَرْفُ أَمَامَكَ غَابَةُ صَفْصَافٍ
مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَحِمَ الغَابَةَ
مِنْ غَيْرِ سِلاَحٍ
آهٍ مَنْ يَقْدِرْ


***

ختاما لا اجد سوى مقطعا من قصيدة مديح الظل العالي لمحمود درويش يقول فيها والكلام موجه لفلسطينيي لشتات

القمحُ مُرٌّ فى حقول الآخرين ، و الماءُ مالح
و الغيمُ فولاذٌ ، و هذا النجمُ جارح
و عليك أن تحيا ، و أن تُعطى مقابل حبة الزيتون
جلدك
كم كنتَ وحدك يا ابنَ أُمى ،
كم كنت وحدك



ـــــــــــــــــــــــ

* جزء من مداخلة مداخلة القيت في ندوة حول ادب المهجر بمهرجان ربيع الشعر بمولاي ادريس زرهون ايام 8-9-10/ 04 / 2013
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى