سعيد علوش - قراءة في رواية رشيد ميموني الجديدة: رحلة في متاهات الذات في وجدان القبيلة

أطل الأديب الجزائري المعروف رشيد ميموني قبل أشهر برواية جديدة بعنوان "شرف القبيلة" هي الثالثة له بعد "النهر المحول" 1982 و "طومبيزا" 1983. أثرت في الأوساط الأدبية الفرنسية أولا ثم المغاربية والعربية لاحقا، ضجة تستحقها، لافتة الأنظار إلى تجربة أدبية نابضة حية، تطرح إشكالية علاقة الفرد بالجماعة، والعصر بالذاكرة والهوية بتحديات التطور...
اليوم السابع – الاثنين 18 كانون الأول (ديسمبر) 1989


تثير روايات رشيد الميموني في ذهن قارئها المتوهم عوالم كفكاوية ووجودية، إذ تضعه روايته الأولى بين أهم الروائيين الذين يشتغلون على أثار الانفعال والخوف، فنهر الميموني يشدنا إلى مخاض شعب بكامله، وتأتي رواية "طوبيزا" لترسم ملامح البؤس والعنف والقرف الجامح في ليل حالك السواد، لا تخترقه صدى التماعات حب جارف في فضاء سرقت منه الأضواء. وبعد خمس سنوات تظهر رواية"شرف القبيلة" 1989 لتثير ضجة في الأوساط الثقافية الفرنسية والجزائرية، وتصنف بين أجمل روايات الموسم الروائي. يبدو أن بول فاليري – الذي يستهل رشيد الميموني به روايته – وهو يرى بان (كل القصص تتعمق في الخرافات)، كان بحث كاتب الرواية على الغوص في أعماق لا وعي القبيلة الوجودي، وهو ما جعل الروائي يستدعي الراوي الشعبي ليفتتح "شرف القبيلة" بما تختزنه ذاكرتها:
" لا يمكن أن أبدأ هذه القصة بدون التبرك باسم العالي، المحيط بكل شيء، خالق كل مخلوق، والأمر بكل حدث، ورب كل الأقدار، الذي ألم بكل شيء في كتابه الحكيم، فإليه أطلب قبول قضي. وبما أن الأمر لا يتعلق بحكاية، فليس من الضروري انتظار ليل الحكي، مخافة أن يصيب الصلع أولادنا.ستسمع لي دون فهم ما أقول، فقد أصاب النسيان لغتنا"(ص.11). يحضر لا وعي القبيلة افتتاح الرواية، ويهم بتوظيف مستنسخات دينية، ولكنها لا تلبث أن تتفجر مع حكي النهار، الذي يفضح ما ينستر عنه ليل حكي الصغار، ما دام التحول العنيف لا يصيب القبيلة وحدها، بل يصيب السارد،الذي ينتقل من عالم شفوي إلى عالم كتابي.
"اترك إذن آلتك تطبع كلماتي (...) اترك آلتك تدور إذن" (ص.12). "... ففي إمكانك إيقاف آلتك" (ص.215). "...سأتكلم بدلا عنك إلى هذه الآلة" (ص.205). "الآن أوقف آلتك، فعلي أن استلقي"(ص 29)...
ومع ذلك فهذه الآلة، لا يلبث أن يتحداها حسن المبروك – شبه الراوي الشفوي –طول صفحات (من 69 إلى 82) وتدور الرواية في فضاء قرية مهملة، يطلق عليها "الزيتونة"،نسبة إلى جد القبيلة، المدفون تحث شجرة الزيتون الكبيرة. ويظهر أن السارد – بطريقته الساخرة – يعفينا من عناء وصف غير روائي. لان القرية، عبارة عن: "بلد يقع في قعر العالم، وهو جد باهت، وجد متستر، إذ لا تشير إليه أية خارطة في العالم، ولدرجة إيغاله في الديمقراطية، فهو لا يحتاج إلى رئيس دولة" (ص 88).
إن جميع أهل القرية يتعارفون فيما بينهم.ويتبادلون التحيات صباح مساء، وبذلك فهم على بكل أحداث قريتهم، بل يعرف بعضهم عن بعض أقل الدقائق في حياة الآخر. إنهم إذن يعيشون ميثاق شرف قبيلة، يفترض أن على رب الأسرة الشريف أن يتوقف عن العمل بمجرد بلوغ أول أبنائه الذكور سن تعويضه في العمل، مما يسمح للشيوخ بالتمدد تحت ظلال شجر الزيتون، ولا يتحلون عنه إلا للانتقال نحو الظل، الذي يغدرهم.
كانت القناعة عملتهم والكرامة هويتهم، وأن أولئك الذين كانوا لا يملكون ما يسدون به رمقهم، يخفون ذلك عن غيرهم، لأن شرفهم يمنعهم من ذلك.
كانت القبيلة ترى في الهجرة أبنائها علامة إخلاء "الشعبة السعيدة"التي تسكنها، فقد هاجر القبيلة عمر بن حسن أكبر نبيل ومبروك بن طفيل الابن الأصغر للولي المؤسس، واحمد الريحاني، ولم يتوقف تنازل عدد ذكور القبيلة: كان الجميع يعرف أنه لكي تستمر القبيلة. يتوجب على أفرادها التخلي بالقوة، ووضع مصير القبيلة، لا بيد أكثرهم حكمة، أولئك الذين يتلافون الخلافات والمنافسات العصيبة. وبذلك فقد كان الجميع يعتقد بأن المصائب التي يمكن أن تصيب القبيلة لا يمكن أن تأتي إلا من الأجانب.

القرية الفاضلة


وفي هذا الإطار يرسم الميموني فضاء الزيتونة، فضاء "لشعبة سعيدة" (ص: 42،77،91، 108،129،145،152، ) وشعبة الأجداد، ترتبط بالخصب والربيع(ص:153 – 152 – 141- 43) وتكاد تتحول القرية إلى "قرية فاضلة" على غرار المدن الفاضلة لولا لعنة الأجنبي التي كانت تطاردها، ولعنة المدينة التي تلاحقها، كما لاحقت فضاء رواية محمد خير الدين في "أسطورة اغونشيش وحياته" (1934).
وتتعرض الروايتان إلى شرف القبيلة، ومع اختلاف واحد هو أن الميموني بموقعها في الجزائر، ومحمد خير الدين في المغرب، بالإضافة إلى لغة الروائيين الخاصة والمتميزة عن باقي كتاب رواية التعبير الفرنسي، والتي تتفوق بكثير على كتاب الجوائز الفرانكفونية.
يركز رشيد الميموني ومحمد خير الدين على العالم القروي، وتحولاته. يقول م.خ.الدين:"لقد قرر اغونشيش، علما منه بأن ذلك الشتاء سيكون قارسا جدا، الذهاب إلى تزنيت، ألقى نظرة أخيرة مفعمة بالمرارة على الوادي، الذي ولد فيه، وصر أمتعته في بطانية اثبتها على ظهر بغلته ومضى في طريقه. كان يعرف أكثر منعرجات الجبل خفاء. وهكذا قال في نفسه بأنه لن يتعرض للالتقاء إلا برعاة أو متشردين منعزلين.
سيتفادى القرى المتاخمة للطريق، التي شقها جنود اللفيف الأجنبي مؤخرا، ويتبع سبيل الدرى، وفي الليل سينام كعادته في العراء، ولكن يلزمه أن يحصل على العلف والماء لمطيته. فالصيف قد جرد المرتفعات وانضبها كلية، ولم يقلقه ذلك..."
فإذا كان اغونشيش بطل محمد خير الدين يلقي نظرته الأخيرة على عالم مفعم بالمرارة، فإن عمر المبروك بطل رشيد الميموني يلاحظ عدم تغير أي شيء في القرية، التي يكاد يحسبها الناظر قرية مكسيكية.
وإذا كان التحول يبدأ عند محمد خير الدين بشق اللفيف الأجنبي للطريق نحو القرية، فإن هذا التحول عند رشيد الميموني، يبدأ مع فض الضابط الفرنسي لبكارة "اوريدة" التي كانت رمزا لشرف القبيلة: "حين علمت "اوريدة" بأن عمر استقر عند مارتيال، يصطاد لحسابه الحيوانات الوحشية، ويلازم بنته، أصابها غضب...
هل فقد إلى هذا الحد كرامته، ليقبل بخدمة كافر؟ (ص.100) فاوريدة التي كانت رمز الكرامة، وهي تغضب من اجل كرامة عمر، يفاجئه حسن المبروك في غرفة الضابط، الذي لم تكن تعتبره رجلا لعدم انتمائه إلى أمة محمد "ففي الغرفة التي أنيرت، واجه الضابط فوهة بندقية وهو يتجه نحو الباب، وعلى إثره غادرت اوريدة الفراش عارية، مسرعة إلى الحيلولة بجسدها دون قتله. بذراعين مفتوحتين وشعر مسرح، تصبح:
أرجوك لا تقتله" (ص.149).
كانت إذن الصدمة عنيفة، تلك التي أصابت شرف القبيلة في الصميم، وصدق حدس السارد:
"وقد استخلصنا من الحادث، بأن الشرور تأتي دائم من الأجانب" (ص.35) ويوهمنا طرح رشيد الميموني باستهلال نفس أطروحة (المستعمر. المستعمَر)التي خاضت فيها الرواية المغربية غداة الاستقلال ولمدة طويلة، ولكن الأمر على خلاف ذلك، إنها محاولة تصحيحية لوعينا المديني، وربط ظواهرنا، لان الأمر أعمق من ذلك، والإشكالية أعقد مما بسطناه إبداعيا واستهلكناه إيديولوجيا.
فرشيد الميموني في "شرف القبيلة" يتلافى الحديث عن الآخر باسمه فهو الأجنبي والرومي والمتحضر، ويجمع داخل هاته التسميات كل أنواع الاستغلال التي انصبت على القبيلة، كيفما كانت طبيعتها الإيديولوجية والسلطوية. ففي المرحلة الأولى من افتضاض شرف القبيلة، نجد مواجهة بين الزيتوني – نسبة إلى قبيلة زيتونة – والرومي.

لغة الرومي


فلا تأتي الإشارة إلى الآخر، إلا وهي مقرونة بعلامة من علاماته:
"... العارف الوحيد بلغة الرومي" (ص. 33).
"...تعلم لغة الرومي التي تفتح وحدها الطريق نحو الشغل والمرد ودية" (ص.34).
"الروميون ما زالوا في الحرب مع الألمان"(ص.67).
"... أنت الوحيد الذي يعرف لغة الرومي" (ص.120).
"ولد علي كان الوحيد الذي تردد على مدرسة الرومي" (ص.124)
"الروميون..." (ص.125)
"الرومي الغريب" (ص.139).
"الروميون" (ص.140).
سأذهب لرؤية هذا الرومي" (ص.143)
"لقد هزم الرومي" (ص.101).
قال لنا بأن الروميين هزموا" (ص,152)
كان يستعمل غير اللغة الرومية" (ص.172)
وحيا القادمة بلغة الرومي" (ص.174).
"يعتقدون الألمان بمعرفة الروميين" (ص.201).
"عرض عليه أبوه القضية بلغة الرومي"(ص.208)
فلغة الرومي تكاد تكون لازمة في الخطاب المستنسخي عند رشيد الميموني، لأزمة بطله علي بن علي – الذي عاد إلى القرية بدون روح – بعد أن التحق بالمدرسة الأجنبية، سيصبح الوسيط الشرعي بين القبيلة والعالم الخارجي، خاصة وانه التحق بالقرية بصفته مكلفا بالبريد – أي بريد – مادامت: "الرسائل القليلة التي يضع عليها خاتمة، كانت مكتوبة من طرفه، بطلب من باعثيها. الذين يجعلون كتابة الرومي، وهذه الخطابات القصيرة، كانت تكتفي عامة بطلب التوصل بحوالة من الابن المهاجر بفرنسا"(ص.15) ولا يكتفي علي بن علي بهذه المهمة. فقد: "كلف سكان (الزيتونة) منذ مدة علي بن علي – نظرا لوظيفته الرسمية – بإخبارهم بإيجاز عن الحوادث التي تعصف بالعالم، لأنه كان الوحيد الذي يقرأ الجريدة، التي يحملها سائق الأوتوبيس مع البريد" (ص.37).
ومن ثم، سينحسر وعي القبيلة في وعي "حسن المبروك" الذي أصبح سارقا لأولئك الذين حاولوا سرقته، ولا يلبث أن يختفي بعد أن يلقي عليهم بحكمة ونقمة، ويعلن للقبيلة بأن مصائبها ابتدأت منذ أن شاهد الابن أباه يحتضر دون القدرة على نجدته، حتى وهو يعلن أن مهمته تقتصر على الترفيه عن القبيلة، التي عليها أن لا تأخذ كلماته مأخذ الجد. إنها بطولة المجذوب التي لازمت الكثير من الكتابات المرابية بالأدبية والسينمائية -، يقول حسن المبروك:
"لقد عرفت جهات العالم السبع ، وعبرت البلدان التي يمشون فيها على رؤوسهم، وتلك التي يأتي فيه الشتاء صيفا والصيف في الشتاء، وتلك التي يكون فيها الليل نهارا، والنهار ليلا، ولا يمكن لسكانها إلا أن يموتوا بالجنون، وفد أصابتهم عدوى الضحك" (ص.71) فالنفس الكفكاوي، وسفر التحولات يعلن عنه على لسان المجذوب، الذي يترك بعض نفحاته فيمن سيحملون اسمه من عائلته، وخاصة عمر المبروك، الذي يسيطر على أحداث المواجهة الثانية بين القبيلة ووسيطها – غير الشرعي – والأجنبي الجديد.
وسنجد أن عمر المبروك بدوره، يذكر القبيلة بخيانتها: " إذا كان أبي قد قبل مواجهة الحيوان، فلكي يدافع عن شرفكم، ومات بسبب ذلك ولم يقتله الدب، بل قتله جبنكم" 'ص 85).
وينتقل الصراع من (القبيلة/ الرومي) إلى (القبيلة. الشرعية) والأدهى والأمر، أن القبيلة غير المعنية بالصراع حول مصيرها ستتلقى خبر تحرها من الرومي، دون وعي لأهمية الخبر:
"- لقد انتحرنا
انتحرنا
نعم، تحرر بلدنا، وسيغادره الفرنسيون"(ص.15)
وستعتقد القبيلة أن الأمر يتعلق بحكم ذاتي وإعفاء من الضريبة:
"- سيذهبون
لن يكون علينا أداء الضريبة
لن نعاني من الظلم
من سيقود البلد بعد الآن؟
أولئك الذين سيختارون الشعب
أناس مثله ومثلي، كجلول الحداد وعيسى الأعرج أو جورجو... هل يقدرون؟ وهذا ما يقلق" (ص151)
وتتبخر أحلام القرية – في محاولة استعادة شرفها – لأن تسلط عمر المبروك – رمز السلطة المركزية – سيحكم عليها بالتنكر نهائيا لميثاق الشرف اليومي في حياتها. فستتعلم بأنها لم تضع نصبا للشهداء ولم تحلق بالمجاهدين، وانه لا شيء يدل على تخلصهم من هيمنة الاستعمار.
إنهم إذن لا يتبدلون، فكما كانوا مع الرومي، سيظلون تحت الوصاية، ودائما في الدرجة الثانية، وقاصرين عن أخذ زمامهم بأيديهم.
وفي مقابل كل ذلك رفع الشعار الثاني في حياة القرية، ذلك أن عمر المبروك خطب فيهم:"عليكم أن تعلموا بان الثورة لم تنساكم ذالك ما أعلن عنه خلال قدومه، ولم نكن نعرف ما كان ينتظرنا" (ص11)
"لا يمكن القول بأنكم نسيتم، وتخلت عنكم الثورة... من الآن فالمستقبل بين أيديكم، وسنبني جميعا هذا البلد، ونجعل الازدهار يهيمن عليه، وسيتورد كل ما حولكم، وتعود ابتسامات الأطفال كما كانت في الماضي إلى الشعبة السعيدة" (ص.95)
إنه الخطاب الإيديولوجي للدول الوطنية، كما عرفته الجزائر بعد الاستقلال ليتفجر في انتفاضة أكتوبر الأخيرة.
ويظهر عنف الخطاب الروائي عند رشيد الميموني في نقده المزدوج لما قبل الاستقلال ولما بعد الاستقلال على السواء، ويظهر هذا من خلال وضعية قرية الزيتونة، التي لم تتغير وضعيتها، ومورست عليها جميع وسائل العنف الهادئ والإداري، يقول السارد الكامل المعرفة:
"كانت قريتنا ملحقة دائما بالقرية المجاورة، ففي الفترة الاستعمارية كانت إدارة الجماعة المختلطة راضية على أدائنا للضرائب، من ثم، فهي لا تحاول حشر انفها في شؤوننا... وبقينا نتمتع بامتياز حرية خاصة... إلا أنه وبعد شهور على الاستقلال، جيء لنا من بعيد بمن يخبرنا بأننا سنمارس سيادتنا الجديدة، التي حصلنا عليها بعد صراع قوي، وعلينا أن نصوت لانتخاب والي ومجلس بلدي، يسير الشؤون العامة"بسيدي بونومور" وبما أنه طلب منا تقديم مرشح، فقد رشح "محمد" بالإجماع... وبعد أسابيع على ذلك عاد إلى "الزيتونة" بلباس كاكي... يشبه الجنود الذين حاربناهم..." (ص.25).

كل شرور المدينة


ويبدو أن السلطة المحلية حاولت الهيمنة على أنفاس القبيلة ورسم دائرة تحررها من الاستعمار، ومن شرف قبيلتها، فالاختيارات الجديدة للمتعطشين إلى السلطة، ترسم حدود التمثيلية المركزية الهادفة نحو الاندماج السريع في سلك تهافت المتهافتين. فلا فرق بين عمر المبروك وسائقه إلا في كون الأول استمر في الزحف نحو العاصمة بينما ظل الثاني ينتظر من يجازيه، على يد مزيفين:
"والملاحظ من الحوادث، قدوم أجانب مزيفين، إذ لم يكن من عادتنا استقبال أجانب، ولم نعرف غير بعض الشيوخ المرضى، الذين يتعاملون معنا كنحل، يأتون لدراسة عاداتنا وتقاليدنا.
كان الفضوليون يقضون أياما بكاملها تحت الشمس ينظرون كيف نعيش، وبما ان إدارة الجماعة هي التي بعثتهم، فقد عرفنا كيف نتجاهلهم، على الرغم من حس الضيافة"(ص.29). فوعي قبيلة زيتونة لم يستطع تخليصها من شرورة المتهافتين عليها من هؤلاء الباحثين عن المناصب واقتسام غنائم المستعمر باسم شرعية محاربته وإقامة نصب تذكاري لمغادرته.
ويبلغ الاحتواء قمته مع سن قانون "التمدرس" ووصول معلم إلى القرية بالإضافة إلى تجول محمد ممثل القرية بطابع وقلم في جيبه،يوقع ويختم (في كل ساعة وفي كل مكان).
وستظهر كل شرور المدينة بقبيلة الزيتونة، فالشرطي يدخل القرية على دراجة نارية، ليعلن اول مظاهر السلطة المركزية التي تنزع من القبيلة حق عبور ماشيتها للطريق السيار وتهديدهم بالدعيرة.
وإمعانا في الاحتواء والمسخ تختار الزيتونة لتصبح مركزا للوالي الإقليمي، لا شيء
إلا لان تقاليد السلطة المركزية تفضل عدم الحسم في المشاكل وذلك بقطع الإجاصة إلى نصفين، بدل الحفاظ على وحدتها. ومن بين مظاهر ذلك حل مجلس الجماعة القروية واستبداله بمجلس بلدي على مقاس الديمقراطية المركزية للدولة.
فعمر المختار يحدد لعبة هذه الديمقراطية كالتالي:
" ... إذا تذكرت دروسي، لن يكون عليك خلال الانخبات المقبلة التظاهر بالقيام بحملة، ففي جميع ملاحق الجماعة، سأوزع أمكنة اختلاء سحرية، تخرج بالضرورة اسمك، كيفما كان التصويت المدلى به "(ص. 108).
كما توزع الود بسخاء – تحوله سخرية الخطاب الروائي – مسموم بعد أهل القرية بالفيلات المستوردة من كندا وبأجهزة تبريد وتدفئة وأثاث فاخر ومسابح وتعاونية لتسويق الويسكي، ومائة نوع من الجبنة، إلى غير ذلك من الوعود المعسولة، التي تصطدم بأبسط الأشياء القريبة إلى قريتهم، وهو استرجاع أراضيهم التي غادرها المستعمر واممتها الدولة، فقد اعتقد سكان القرية، انهم لم يعودوا في حاجة إلى عصير العنب، فانخرطوا في إزالة مغروساته، لاستبدالها بالشعير والقمح واللوز يقتادونهم إلى المحكمة، التي ترفض الاعتراف لهم بملكية أراضيهم بدعوى ان رسوماتهم قديمة، وانها لا تعطيهم الحق في أراضي منتزعة او بيعت او تخلى عنها، وضمت قانونيا إلى ممتلكات الدولة، هذه الدولة التي اقترحت عليهم مع ذلك، العمل في هذه الأراضي كمجرد عمال فلاحين.
ويخرج ممثل الجماعة من المحكمة وهو يردد: "يشبه قضاة اليوم قضاة الاستعمار، فهم ستعملون نفس اللغة" (ص.155).
وحين تفكر القرية في رفع شكواها إلى الدوائر العليا، فهي تصطدم ببيروقراطية منع الزيارة والقوانين المتعسفة التي تغلق أحد مقاهي القرية بدعوى عدم توفره على مرحاض بينما القرية بكاملها متعودة على قضاء حاجاتها في الطبيعة، وامكنة الراحة لا توجد حتى في بيوتهم الخاصة فاحرى ان توجد المقهى.
ولا يلبث ان تتغير الوضعية، حين يجدد ابن محمد المقهى وذلك بوضع ثلاجة لبيع المشروبات الباردة بها، وإقامة حاجز دائري حوله يسمح بلاستهلال وقوفا، ملزما الزبناء بالاستعجال في الاستهلال، بعد ان استبدل الحصير بالكراسي والطاولات.

أخطبوط البيروقراطية


وأمعانا في استغلال القرية، طلب القادمون الجدد إليها اشتغال خادمات ببيوتهم – من بين زوجات وعازبات القرية – وظهر السفور وقل الاقبال على المسجد. بل وظهر الصدود عن دور الإمام والشيخ في كتابة عقود الزواج، التي تحولت إلى عقود على الطريقة الإدارية. والادهى من كل هذا، أن ساعي البريد الجديد، أخد عناوين باسم ورقم الزقاق.
وترسل البيروقراطية أخطبوطها إلى أعمق من ذلك. إذ يطالب الموظفون السكان بتوصيل الكهرباء أو الهاتف سكانا يتعللون بانهم كانوا يقيمون في القرية منذ قرن ونصف.
ويعي سكان قرية الزيتونة تمام الوعي بأن ما يفصل بين قريتهم والعاصمة هو ما يفصل بين السماء والأرض ولكن لا احد يصغي إليهم فالاوامر والقوانين تتساقط فوق رؤوسهم بوتيرة تتجاوز ردود فعلهم، وتنبلغ سخرية رشيد الميموني أقصاها حين يصور إلزام الدولة للكاكين بوضع علامات مضيئة امام محلاتهم، بينما تستمر القرية في استعمال المصابيح اليتية، وظهر صراع خفي بين الغمام والمعلم الجديد، كما ظهر تحالفات جديدة، يهدد فيها الإمام بعدم تعليم كلمة الله لكل من يضع قدمه في المدرسة. ولكن والي الإقليم عمر المبروك يحسم في الأمر:
"هنا، في هذا المكان ، مما شيد مدرسة بطاولات ومرتفعات، بصورة على الحائط ونوافذ كبيرة مفتوحة على العالم، ولن يكون في إمكانهن عدم استقدام ابنائكم إليها، لا بسين بدلا موحدة، وحاملين المحافظ، تدفعونهم بأيديكم نحو طريق التنكر، الذي ينسيهم أجدادهم، وسيصبحون حلفاءنا، وسيتعلمون لغة الرومي والرياضيات، التي تسمح بالحساب، دون مساعدة الأصابع" (183).
وغذا كانت سلطة عمر المبروك لا تقاوم، فقد ظهر قاضي جديد بالقرية، كان الوحيد الذي يعارضه، وتقدمه الرواية بشكل ملتبس يجعل منه إبنا غير شرعي لعمر المبروك مع "اوريدة"، لكن عمر المبروك يصيح : "هذا الرجل ليس ابني إنه هجين علاقة الضابط "الفرنسي" مع العاهرة اوريدة" (ص 215).
ومرة اخرى لا تصبح اوريدة رمز افتضاض "شرف القبيلة" بل تتحول إلى مخلفة لبذرة اللعنة، التي تلاحق قرية الزيتونة. ويعلن السارد عن النهاية: "هكذا تنتهي قضتي، بعون الله، ففي إمكانك إيقاف آلتك" (ص.215)
وبهذا تتجاوز رواية رشيد الميموني "شرف القبيلة" طروحات رواية الواقعية والواقعية الاشتراكية، إلى رواية النقد المزدوج للذات والآخر على السواء، بعد ان تكون لنا الوعي الزمني والمعرفي اللازمة لمواجهات إشكاليات الكتابة الآلية والوقائع الغربية لما بعد انتفاضة اكتوبر.

اليوم السابع – الإثنين 18 كانون الاول (ديسمبر) 1989
ــــــــــــــــــــــــ
المصدر: موقع الدكتور سعيد علوش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى