منقول : الترجمة عند الجاحظ.. الثقافة اليونانية

قيمة الترجمة

« قال بعض من ينصر الشعر ويَحوطُه ويحتجُّ له: إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيَّات حدوده، ولا يقدر أن يُوفِيَها حقوقها، ويؤديَ الأمانةَ فيها، ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجب على الجَرِيّ، وكيف يقدر على أدائها وتسليمِ معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصِدْقِها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريفِ ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلفِ الكتاب وواضعِه. فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق ، وابن ناعمة، وابن قُرَّة، وابن فِهريز، وثيفيل، وابن وهيلى ، وابن المقفع، مثل أرسطا طاليس؟! ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟!



شرائط الترجمان

« لابد للترجمان من أن يكون بيانُه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواءً وغايةً، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمْنا أنه قد أدخل الضيمَ عليهما، لأن كل واحدة من اللغتيْن تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها. وكيف يكون تمكُّن اللسان منهما مجتمعيْن فيه،كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوةٌ واحدةٌ، فإن تكلم بلغة واحدة اسْتُفْرغتْ تلك القوةُ عليهما، وكذلك إن تكلَّم بأكثر من لغتيْن، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسرَ وأضيقَ، والعلماءُ به أقلَّ؛ كان أشدَّ على المترجم، وأجدرَ أن يخطئ فيه. ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء.


ترجمة كتب الدين

« هذا قولنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون؛ فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دين وإخبار عن الله عز وجل، بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه؟ حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد،
ويتكلّمَ في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه، ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على الله تعالى، ممّا لا يجوز، وبما يجوز على الناس بما لا يجوز، وحتى يعلمَ مستقرَّ العام والخاص، والمقابلات التي تلقى الأخبارَ العامّية المخرجَ فيجعلّها خاصّية، وحتى يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصه العقل مما تخصه العادة أو الحال الرادَّةُ له من العموم، وحتى يعرف ما يكونُ من الخبر صدقاً أو كذباً، وما لا يجوز أن يُسمى بصدقٍ ولا كذبٍ، وحتى يعرفَ اسمَ الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند أي معنىً ينقلبُ ذلك الاسم، وكذلك معرفة المحال من الصحيح، وأي شيء تأويل المحال؛ وهل يُسمى المحال كذباًُ أم لا يجوز ذلك، وأي القولين أفحش: المُحال أم الكذب، وفي أي موضع يكون المحال أفظع، والكذب أشنع، وحتى يعرف المَثَلَ والبديع، والوحي والكناية، وفصْلَ ما بين الخَطَل والهَذْر، والمقصور والمبسوط والاختصار، وحتى يعرف أبنيةَ الكلام، وعادات القوم، وأسباب تفاهمهم، والذي ذكرنا قليل من كثير.
ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين. والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة، والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم (...)
ولو كان الحاذق بلسان اليونانيين يرمي إلى الحاذق بلسان العربية، ثم كان العربي مُقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ؛ لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يجد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربية بُدّاً من الاغتفار والتجاوز، ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين؛ وذلك أن نسخته لا يَعْدَمُها الخطأ، ثم ينسخُ له من تلك النسخة مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثم لا ينقص منه، ثم يُعارض بذلك من يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله؛ إذ كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي ى يجده في نسخته».

--------------
( كتاب الحيوان: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 255هـ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون – ط2 [ القاهرة، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي،1965]، الجزء الأول، ص75 - 78

* منقول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى