أيمن مارديني - فاتحةٌ للغةٍ.. لعمرٍ.. لصديق .

أقرأ عليك الفاتحة، فاتحة النشيد الذي غنينا، فاتحة التاريخ، وكم فزعنا عندما علمنا أن كل الطرق تؤدي الى تراث الدم، وفقه الرجم، ونهايات الزمان.

-اقرأ علي فاتحة الأشياء .اقرأ .
- ما أنا بقاريء .

وتقرأ أنت ما بدر مني اليك، وما خطر لك عند أول قبلة لحبيبتك، ذات الشعر المشدود من شعاع الى سحاب،الى قمر، والى أسطورة الناي الأبدي.
وتعلن الفاتحة عن وجودها بجرس من سورة العشق، سورة النور والرحمن، وألا بآيات الفاتحة تكذبان.
وخلف ورقة من توت نخبىء عذريتنا التي خطفتنا سريعاً على جناح الرحمة.
نقرأ سوية، ونقرأ .
والآن ما أنا / أنت إلا قاريء.
تقرأ علي نشدانك للهشاشة التي كانت، والعمر البدايات، وأول العشرين، وأول لقائنا به... أتذكر؟
- و السلام على فاتحة العمر العشرين، ولك مني ألف اندفاع وغريزة وعاطفة من زبد .

- وسلام على الفتى الذي هو من حجر، ومن غضب، وحب، ويسكن في خلايا قصيدته التي يخبؤها خجلاً عن أبيه، عن أمه وأخته، لأنه عرى فيها النهد، وقضم الحلمات، وأرتعش عند الانزال.
ونضحك، ونطير .
ونطل من شباك العمر الصغير على الضحك، لنجده أرضاً ممدودة، مدىً مطلي بالشفاه، والبسمات، وأجنحة من فرح مغزول به ريشها.
نحن كنا أول الفاتحة، ومنها أتينا.
فقد أنكرنا الطين أن يكون جدنا، وجعلنا من الفارس الأحمر شعاراً لكراسات التاريخ، واللغة، وأيضاً كتاب الديانة المدرسي.
أتذكر؟
أم الذاكرة ليست عليك بمسيطر؟
وافترقنا عند أول انفصال في الطريق.
أنا كنت أقصى اليسار، وأنت كنت تنتحي في اليمين، ولم نكن نعلم أن الطريق دائري بيننا، و لم نكن ندرك أن الوطن الحقيقي كان مركز الدائرة التي يسكن خارجها،لامركزها.
كنا، وافترقنا...
لنعود الى اللقاء بعد عشر سنين، وسلام آخر أتى منا الى بدايات الثلاثين، ليزداد اتساع الشباك فينا على الضحك، وبالضحك مازال لدينا القدرة على الطيران.
- والسلام على فاتحة الثلاثين بعد العشرين، وفيها من الشيب بدأ يغرف أكثر من كلمات القلب، فيه من الشيب يغزو تردد القبلة الأولى، الا العاطفة مازالت من وهج.
- وسلام أيها الفتى الذي كان، وأذكرك عشرينياً كنت، ويافعة أحلامك، وثلاثيني الآن أنت، وحلمك أكثر اخصاباً ... ربما.
وافترقنا ثانية ... أتذكر؟
أنا كنت أؤمن بلغة أحلامي، وشرقية كانت، لغتها عربية، وأعشق الفاتحة فيها، وأضم على قلبي ضمة وردة صبار، وكنت أنزف في صمت، وأخاف الانكسار أمام الزمن الرديء، وأنت غربي الهوى، وأتيت الى اللقاء بيننا، وأنت تحمل أحرفاً أخرى، ولغة أخرى تسير من اليسار الى اليمين، لتقف عند نهاية السطر، وتعلن أن راية اليسار قد سقطت، وأنها بكل وثوق ذاهبة الى اليمين، وتؤمن أنها هي أبجدية اللحن الأبدي.
ولم نلتفت الى أن اللغة هي أحصنة تركض على أحلامنا، وعليها ألا تلحق بها، علينا ألا نترك صهوة الريح تأخذنا بعيداً، وأن اللغة هي الريح في صوت ناي، ونحن من يعزف، نحن أصل الناي.
وتذكر أيضاً؟
أتذكر أنا ما كان منك عندما بدأت تتلو الفاتحة عند قبر صديقنا الذي اتفقنا على خيانته سوية، وضحكنا أكثر دونه... فقد كان نجاراً يصنع من مطره صليباً، لم يعلم أنه عليه سيصعد الشتاء القادم.
تعثرت، وتباطأت، وداهمني سؤالك عند حافة جسد الصديق المسجى: لم عندما تأتي النهايات نقرأ عليها الفاتحة؟
بعد أن نظرت اليه، واليك، والى يدي المفتوحتين، وعرق كلمات الفاتحة لم يجف بعد، قلت لك: الفاتحة نغرق فيها سرير الرقاد الأخير، ونملأ بها الجسد عله ينال بفاتحة الموت راحة ونوما هنيئا يكون مليئاً بالأحلام.
فقد كنا نعلم أن الموت نوم يأتي الينا بلا أحلام، بلا أجنحة نطير فيها، أو ضحك نملأ به جيوبنا.
واقترقنا، لنغادر فاتحة الموت الأول في حياتنا.
ولأننا محملون بقدر كبير من الغباء، ولانرتاح إلا إذا كسرنا أجمل الأشياء فينا، أجمل البدايات والفواتح ... افترقنا.
افترقنا .. لنغادر الثلاثين كل على حدة، و يأتي الينا مرغماً عمر الأربعين، ويأتي ليعلن فاتحة أخرى، ونرفضها ، وان قلنا عنها هي الحكمة،
وعاشقة الوحي السرية،
ودثريني يا عاشقة،
مسدي شجني واعتناقي،
فهما لهبان أحترق بهما،
يخترقان سوية الأنصاب والأزلام،
والجسد المتعب باكراً ...
قبل الأوان.
أتذكر ؟
لا ... لن تذكر هنا ... أعتذر منك، واليك ، وعنك أيضاً كأنك أنت هنا.
أنا وحدي دونك البدايات، والفاتحة هنا لي وحدي هذي المرة، أتلوها، وأقرأها عليك، دونك، واليك ،لأنك غادرتها أنت منكسراً، مهزوماً، مطعوناً في حبك لها، ورفضها لك كسر مراياك، وأحلامك طارت بعيداً عنك، وأنت دونها، ولم تعد الفاتحة لك من معنى سوى كلمات.
في ذلك اليوم، والذي كان جسد البحر يعانقنا أنا وهي رأيتك تأتي الي تزورني، تصحبني لنشرب القهوة الفاتحة، ونظللها بالذكريات. نسأل النادل أن يأتي الينا بالجرائد، ويعتذر أنها منذ أسبوع، ونضحك سوية، ونخبره أنه لا فرق. نلاحق مؤخرات الفتيات أمامنا، وأعلن للمرة الألف ولهي بالأقدام العارية التي أراها تسير على دمي، وأنت تتذكر قصيدة لي عنوانها على مائدة الحب الآخير، وأنا أعاود طلب فنجانين آخرين قبل أن تتلوها، وكعادتك، وبلثغتك المحببة تتلجلج عند البدايات، لأكملها عنك، وتشاركني الالقاء، وعند بداية الفنجان الثالث يأتي النادل الينا يطلب الحساب، تسارع أنت، وأمد يدي اليه قبلك، ويقول لي: أعتذر منك... لقد حان موعد تغيير المناوبة لنا، وعلي أن أقفل الحسابات، وإن لم تذهب بعد. أبتسم بهدوء أربعيني، ومليء بالوثوق والذكريات، وأقول: لا داعي للاعتذار... لا يهم التوقيت. ليسألني هو: وأراك غداً تأتي كما هي العادة الينا لتشرب قهوتك وحيداً.
أنظر اليك، والدهشة تكسوني، وأبطن اعتذاراً لك، وبعد برهة للوقت اقول: أجل .. أجل .. كما هي العادة، وينصرف عني، وألملم أنا حاجياتي، وأهمس لذاتي سراً، وأقول لها:

وكأني أحلم حلماً جديداً، لم يزرني من قبل، وأخاف.

10/10/2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى