إبراهيم عبدالمجيد - كان يعرف أسماء البلاد.. قصة قصيرة

لماذا تنظر إلى يا إبراهيم؟

ولابد أنى أحسست بالخجل. أذكر أنى أطرقت أنظر إلى طبق الطعام الوحيد فوق "الطبلية"، وغمست اللقمة فيه، ثم رفعتها إلى فمي، ورفعت رأسي كله أبحث عن شيء في السماء، فلم أقابل نجمة واحدة.

- إبراهيم لا يصدق أنك تصوم وتفطر معي كل يوم سمعت أبي يقول ذلك، ورأيت " عم دميان " يبتسم، وبعدها انقطع الكلام. صرت أسمع صوت طحن الأسنان للخبز الجاف.

كان الاتساع الذي حولنا كبيرا، والصمت بحجم الاتساع. رأيت منذ قليل الأفق الغربي يشتعل باللهب، والآن اختفى الأفق، لكني كنت أميز محطة السكة الحديد القريبة، فهي أشد إظلاما. سألت نفسي: هل حقا سأمضي إجازة الصيف الدراسية كلها هنا مع أبي؟ وتذكرت أمي وسألني " عم دميان ":

- هل تعرف خروشوف يا إبراهيم؟ - نعم.

- هل تعرف لماذا جاء إلى مصر؟

- جاء يزور مشروع السد العالي.

- شاطر

وسكتنا، وقال أبي:

- إبراهيم ناجح في الابتدائية بتفوق هذا العام.

وتحشرج صوته، وبدا أنه يختنق، فقد راح يسعل بقوة ويشير لي بيديه أن أناوله " قلة الماء " التي راح يكرع مياهها بصوت عال، وأنا أتابع بدهشة تفاحة آدم الصاعدة النازلة بسرعة في عنقه وأفكر: ما الذي جعله يطلق أمي ثلاث مرات؟ ولماذا لا يمكن أن يعيدها هذه المرة؟. وأيضا زوجة عم دميان لماذا تريد البقاء في الإسكندرية وترفض الحياة معه هنا؟. وسألت نفسي هل سيطلق عم دميان زوجته أيضاً، لكني رأيت أبي، بعد أن وضع " القلة " جواره، ينظر إلى بعيد. نظرت فرأيت رجلا يقترب منا على مهل يرتدي سترة سوداء قديمة فوق بنطلون أسود ضيق، ويمسك في يده " صرة " سوداء صغيرة. اقترب الرجل فرأيت له وجها أحمر قويا تحيطه لحية مشوشة، وبه شارب مشوش أيضا، وفي قدميه " صندل " قديم، ورأسه أصلع.

- تفضل.

هتف أبي والتفت " عم دميان " فرأى الرجل فتحرك قليلا يوسع مكانا، وتحركت أنا أيضا، وجلس الرجل بيننا بعد أن وضع الصرة بعيداً عند الباب.

لم يلق الرجل علينا سلاما، ولا صافح أحدا منا. مد يده على الفور وتناول رغيفا راح يمزقه بسرعة، ويضع اللقمة منه في الطبق الوحيد، ويكاد يقذف بها إلى فمه. لقد توقفنا عن الأكل ورحنا ننظر إليه إذ ترك الخبز، وحمل الطبق بيديه إلى فمه يشرب ما فيه من " ملوخية " دفعة واحدة.

- صحة ! قال " عم دميان ". ورأيت الرجل ينظر إلى أبي الذي أمسك بسرعة " بالحلة " الكبيرة الموضوعة جواره وملأ الطبق فشربه الرجل كله فعاد أبي وملأ فعاد الرجل يتناول الملوخية بالخبز وعدنا إلى الأكل معه في صمت.

- الحمد لله.

قال الرجل بارتياح بعد أن أخذ شهيقا طويلا زفره بهدوء ثم سأل أبي:

- هل أجد عندك سجائر؟ - سجائر وشاي أيضا.

أجاب أبي وأشار لي أن أدخل إلى الحجرة أحضر علبة السجائر. نهضت بسرعة وعدت بسرعة ومعي علبة " الهوليوود "، لكني وجدت عم دميان يعطي كلا منها سيجارة من علبته. تركت علبة السجائر لأبي ودخلت إلى الحجرة وعدت ومعي " عدة الشاي " الذي رحت أعده لهم على موقد كحولي صغير. سمعت أبى يقول للرجل:

- هل جئت من المحلة الكبرى إلى هنا على قدميك؟

- وسوف استمر إلى ليبيا. هل بقي لي الكثير؟

- الكثير جدا- قال عم دميان ثم أضاف- لكن الذي جعلك تصل إلى هنا يجعلك تصل إلى هناك بإذن الله.

وسكت الجميع قليلا حتى قال الرجل:

- المشكلة أني أمشي الآن في صحراء. من قبل كنت أمشي في الريف. أنا لا أعرف ماذا يمكن أن يحدث لي بعد ذلك؟

- المهم ألا تترك شريط السكة الحديد.

قال أبي ذلك، ثم أضاف " عم دميان ":

- ستجد تقريبا كل عشرة أميال محطة سكة حديد، وسكناً لعمال السكة الحديد صغيراً مثل هذا السكن الذي نعيش فيه.

وتابع أبى الحديث.

- تستطيع طبعا أن تنزل على أهل السكن فتأكل وتشرب كما فعلت الآن.

وعاد الصمت من جديد. قدمت براد الشاي إلى أبى لأنه يحب أن يوزعه في الأكواب بنفسه، ويضع السكر بطريقته، ولم أستطع أن أمنع نفسي من النظر إلى وجه الرجل.. كانت له عينان ثاقبتان. لماذا يذهب هذا الرجل إلى ليبيا مشيا على القدمين؟. ماذا قال لهما وأنا أحضر عدة الشاي من الداخل؟.. وبينما راح أبى يصب الشاي في الأكواب تساءل الرجل:

- ما اسم هذا البلد؟

- برج العرب.

أجاب أبى وتابع " عم دميان ":

- بعدها " الغرينيات ثم " الحمام ".

- أنا سمعت عن " الحمام " هذه.

قال الرجل، فقال أبي وهو يقدم إليه كوب الشاي:

- ولابد أنك سمعت عن " العلمين " و " الضبعة " و " سيدي جلال " " ومرسى مطروح ".

- فعلا. سمعت عنها جميعا. وعن " السلوم " أيضا على الحدود..

ورشف من الشاي رشفة طويلة فقال عم دميان:

- إذن أنت تعرفها أحسن منا وستصل بإذن الله.

ورأيت أبي يقف ويجذبني من ذراعي فوقفت ودخلت معه إلى الحجرة. قال لي أن أضع بعض أرغفة الخبز الجاف في سلة من الخوص، وأخضر من صفيحة الجبن " القريش " ثلاث قطع كبيرة وأضعها في السلة أيضا ثم قال: " هذا عابر سبيل يا إبراهيم "..

عدنا، ووضع أبى السلة جوار الرجل الذي انتهى من شرب شايه فصب له أبى كوبا اخر، وقال عم دميان " للرجل:

- إذن تركت أولادك وزوجتك.

- لهم رب.

وشرب الكوب الآخر بسرعة ووقف حاملا السلة في يد، والصرة التي كانت معه في يد، ورأيت أبي يضع له في جيب سترته " ربع جنيه " ثم يترك علبة السجائر " الهوليود " في السلة الخوص.

وقال عم دميان:

- انتظرلحظة.

وأسرع إلى حجرته ليعود ومعه " زمزمية " صغيرة في يده، وفي يده الأخرى " ربع جنيه " وضعه في سترة الرجل أيضا، ثم وضع الزمزمية داخل السلة الخوص وقال باسما: - كيف تمشي يارجل في الصحراء بدون ماء؟.

ولا أعرف فيم كان يفكر الرجل ذلك الوقت، رأيته مطرقا إلى الأرض في خشوع، ورأيت عم دميان يلتقط علبة سجائره " المعدن " من فوق الأرض ويضعها في السلة.

- لا تؤاخذوني.

قال الرجل، فقال أبي:

- كنا نود أن تبيت معنا الليلة.

- أنا أمشي بالليل وأنام بالنهار.

قال ذلك وانطلق يمشي وسط الظلام دون تسليم أو سلام..


إبراهيم عبدالمجيد
اكتوبر 1991

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى