محمد المخزنجي - الحبار.. قصة قصيرة

طيلة نهار أمس أبهظني شعور بحنين وافتقاد لمكان رأيته منذ زمن عند شاطئ البحر الأحمر، في ظل جرف صخري ذي مساقط هائلة منحوتة في سلسلة الجبال الوردية التي هناك. كان ظل الجرف يرتمي على خليج صغير تتدافع إليه أمواج وديعة من مياه كان لونها في هذا المستوى فيروزيا، وعند أقدام الجرف كانت الأمواج تتكسر فتستحيل إلى زبد أبيض ناصع. أما في فضاء الظل فوق المياه، وحتى الحافة التي كانت تختبئ وراءها الشمس، فقد كانت طيور بيضاء مفضضة تحوم وتحلق وكأنها تلهو في ملكوت لا نهائي الاتساع رغم محدودية المكان. ولم تكن تغادر هذا الحيز الظليل ربما اتقاء للذع الشمس الشديد في هذا الوقت وعند هذا الشاطئ.

لقد مسني هذا المكان يوم وقفت عنده بسحر غريب وكأنني اكتشفت كهفا من كهوف الأسلاف. أحسست بالجمال وبالجلال معا، ولسبب ما رجحت أنني لا أرى هذا المكان رؤية معتادة، بالمعتاد من الحواس، وفي إطار المعتاد من الزمن، وإلا ما كان تصاعد كل هذا الشعور بالسحر في داخلي.

بالأمس، وحتى اللحظات الأخيرة قبيل نعاسي، مكث هذا الإحساس بافتقاد المكان، والحنين إليه، يمضني. وكنت أتساءل مستوحشا: كيف يمكن أن تظل الأماكن موجودة دون محبيها؟ وكيف تمضي الحياة في سلسلة لا تنقطع من الفراق تلو الفراق؟

وعندما نمت، وجدتني في المكان الذي أرقني في النهار، أهو حلم؟ ولماذا لا يكون أننا نرحل في الزمان لنلاقي تلك الأمكنة، نعيش فيها وقتا وندير بها أحداث ما نظنه أحلاما؟ لقد رأيت الحافة الصخرية والجرف والمياه والزبد وتحليق الطيور، وأغرتني فيروزية المياه بالنزول، فنزلت. وإذ بالموج يعلو وئيدا وئيدا فيغمرني بكثافة شفيفة، فلا أتنفس، لكنني لا أعاني اختناقا.

كنت أدرك أنني أغرق دون عناء، وأن الروح ستنطلق في هيئة طائر أبيض مفضض، كهذه الطيور التي تحلق في ظل الجرف، لكنني ما كدت أستقر على تماوج رمال القاع البيضاء الناعمة حتى اندفع نحوي أحد الدلافين كانه انبثق من الغيب. ضربني بخطمه حتى انطويت، فحملني على ظهره وصعد بي إلى سطح الماء وقد صرت في ارتياع.

فتحت عيني مرتاعا أنهج. لا، ليست هذه رؤيا. إنها رؤية لموت أوشكت على بلوغه. مكان نفذت إليه وزمان عبرته. ولست أريد إخافة أحد من الناس، لكنني أقيم البرهان على ذلك. فلقد كنت فور استيقاظي مبتلا من أخمص قدمي حتى الرأس، وتفوح مني رائحة البحر وقد علقت بي أصداف وقواقع ورمال. وكانت هناك واحدة من أسماك الحبار تحتضر في أحد جيوبي وقد نفثت صباغها الأزرق فانتشرت بقعة كبيرة على ثيابي. كانت تلجأ إلى حيلتها التقليدية الدارجة للتمويه عند الخطر الدارج، دون إدراك أن الأمر أخطر، وأكثر تعقيدا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى