أدب أندلسي محمد فهمي عبد اللطيف - من الأدب الأندلسي - 3 - التوابع والزوابع

رأينا في المقال السابق كيف راح ابن شهيد يتهكم بالأدباء الذين غمطوه فضله حقداً عليه، وحطوا من قدره حسداً له، وقد أبدى ابن شهيد - وهو بسبيل الكلام على أدب هؤلاء الأدباء - كثيراً من الآراء في النقد والبيان هي أهم وأقوى ما اشتملت عليه التوابع والزوابع، بل هي أهم وأقوى ما لابن شهيد من الآثار الأدبية، حتى من شعره على عذوبته، ومن نثره على ملاحته، فنحن بلا خلاف لا نعتقده الناقد الأول بين النقاد الأقدمين في الأدب العربي، ولكنا بلا خلاف لا نعتبره الشاعر الأول، ولا الكاتب الأول. ولما كانت هذه الآراء قد جاءت متناثرة في الرسالة، رأينا من الخير أن نجمع شتاتها وأن ننظمها في سمط واحد، حتى نتبين منها مذهب الرجل في النقد واضحاً جلياً. وإذا كانت هذه الآراء شابها شئ من حقد ابن شهيد وضغنه على معاصريه، إلا أنها آراء صحيحة ثابتة، تزداد على طول الزمن صحة وثبوتاً. وهذه الآراء في مجموعها تنقسم إلى شقين، شق يرجع إلى شخصية الأديب، وآخر يختص بالآثار الأدبية، وإنما نعنى بشخصية الأديب مواهبه العقلية واستعداده الفطري، وسعة معارفه، وهذه ناحية قد أبدع في بحثها ابن شهيد أيما إبداع، وله فيها آراء قوية لن يسبقه إليها ناقد فيما نعلم؛ فقد حاول أن يستخدم العلم والفلسفة في دراسة الشخصيات وتفهم الملكات الأدبية في الشخص، ومقدار استعداده وطبعه، والطبع - عند ابن شهيد - هو أهم ركن في شخصية الأديب، بل هو المرجع الذي يرجع إليه سر البلاغة. فمن كلامه: (إن البيان هبة إلهية لا علاقة لها بالنحو والصرف، واللغة والغريب، وإن الاختلافإلى الأساتيذ، والتوفر على الدرس والبحث في بطون الكتب، كل هذا لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية. وقد روي في ذلك أنه التقى في وادي الجن بشيطان أنف الناقة (وهو على علاته زي علم، وزنبيل فهم، وكنف رواية) فأراد ابن شهيد أن يناوشه في اللغة والنحو، وطلب منه أن يطارحه كتاب الخليل وشرح ابن درستويه، فقال الشيطان: أنا أبو البيان، وقد علمنيه المؤدبون، قال ابن شهيد (ليس هو من شأنهم، وإنما هو من تعليم الله حيث يقول: الرحمن علم القرآن. خلق الإ علمه البيان) وإنما أنت كمغن وسط، لا يحسن فيطرب، ولا يسئ فيلحى، وليس من شعر يفسر، ولا أرض تكسر، حتى يكون نفسك من نفسك، وقليبك من قلبك، وحتى نتناول الوضيع فترفعه، والرفيع فتضعه، والقبيح فتحسنه).

وقد بحث ابن شهيد في مقدار الطبع وتركيبه في النفوس، وأثره في صور الكلام وتفويق المعاني، وذهب في البحث مذهباً فلسفياً فقال: (مقدار طبع الإنسان إنما يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه، فمن كانت نفسه مستولية على جسمه من أصل تركيبه، كان مطبوعاً روحانياً يطلع صور الكلام والمعاني في أجمل هيآتها، وأروق لباساتها، ومن كان جسمه مستولياً على نفسه من أصل تركيبه، كان ما يطلع من الصور ناقصاً عن الدرجة الأولى في التمام والكمال) ومن رأي ابن شهيد أن للأعضاء الظاهرة تأثيراً على الملكات الباطنة، فتجده يقول في جماعة من أدباء قرطبة (إنهم يدركون بالطبيعة، ويقصرون بالآلة، وتقصيرهم بالآلة هو من طريق العلل الداخلة من فساد الآلة القابلة الروحانية والخادمة لآلات الفهم، والباعثة لرقيق الدم في الشريان إلى القلب، وزيادة غلظ أعصاب الدماغ ونقصانها عن المقدار الطبيعي ما يعين على ذلك بالحس وطريق الفراسة من فساد الآلات الظاهرة كفرطحة الرأس وتسفيطه، ونتوء القمحدوة، والتواء الشدق، وخزر العين، وغلظ الأنف، وانزواء الأرنبة).

وهذا المذهب قريب الشبه من مذهب النقاد الفرنسيين في القرن التاسع عشر الذين استخدموا القوانين العلمية في النقد الأدبي ودراسة الشخصيات، وهو أشد قرباً من مذهب الناقد المشهور (سانت بوف). فقد كان هذا الباحث يعمل على تطبيق علم التشريح، وعلمي - الفسيولوجيا والبسكولوجيا - على تراجم الشعراء والكتاب، وكان يتعمق في بحث النفسيات، ويهتم بالعرض كما يهتم بالجوهر، ويبحث عن شكل صاحب الترجمة الظاهرة، من الطول أو القصر، والنحول أو البدانة، والقبح أو الجمال، ليستطيع أن يدرك مقدار استعداده ومواهبه، وما عنده من صفاء الروح وقوة الطبع. ولكن ابن شهيد كما ترى له فضل السبق إلى تقرير هذه الآراء، ولقد أصاب ابن شهيد في كل ما قرره، ووفق في شرحه وتعليله، فلا جرم أن الطبع هو سر البلاغة، ومبعث الصفاء وحسن الرونق في صور الكلام، وأن علوم اللغة والنحو والتصريف لا تجدي مع القلوب الغليظة، ولا تخدم في الفطن الحمثة، وإنما يسمو الكلام ويرتفع بقدر سمو طبع قائله، وشرف نفسه وصفاء روحه؛ وليس معنى هذا أن ابن شهيد يطلق الكلام في الحط من قيمة علوم اللغة والغريب، أو ينكر فائدتها في تكوين شخصية الأديب، بل إنه يقر بفضلها ويعترف بفائدتها كعامل مساعد على نمو الطبع وتقوية الروح، إلا أنه يرى أن استعمال الغريب واستخدام النحو مما يحتاج إلى الدقة والبراعة، فليس من الفصاحة أن تخرج العبارة في أي وضع نحوي، أو تجري غريب اللغة على أي وجه كان، ولكن الفصاحة أن تختار أملح النحو وأفصح الغريب، بمعنى أن تكون العبارة على الوضع النحوي الذي يتفق والمعنى البياني، وبمعنى أن تكون الكلمات الغريبة في وضعها اللائق، ومكانها المناسب، فإن بين الألفاظ قرابة يجب أن تراعى في الوضع. وقد جلا ابن شهيد هذه النظرية الدقيقة في حكاية رواها عما كان يقع بينه وبين تلاميذه فقال: (جلس إلي يوماً يوسف الإسرائيلي، وكان أفهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلاً عزيزاً علي من أهل قرطبة، وأقول له إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاوز النسيبُ النسيبَ، ومازج القريبُ القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك حسنت المناظر، وطابت المخابر. أفهمت. قال: إي والله، قلت وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر. أفهمت؟ قال: نعم، قلت وكما تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه، قال: أجل، قلت: أتفهم شيئاً من عيون كلام القائل:

لعمرك أني يوم بانوا فلم أمت ... خفاتاً على آثارهم لصبور

غداة التقينا إذ رميت بنظرة ... ونحن على متن الطريق نسير

ففاضت دموع العين حتى كأنها ... لناظرها غصن يراح مطير

فقال: إي والله، وقعت (خفاتاً) موقعاً لذيذاً، ووضعت (رميت) و (متن الطريق) موضعاً مليحاً، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفاً، فقلت له أرجو أنك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فأغد علي بشيء تصنعه. وكان ذلك اليهودي ساكتاً يعي ما أقول، فغدا ذلك القرطبي فأنشدني:

حلفت برب مكة والجبال ... لقد وزنت لروسي الحبال

في أبيات تشبهه، وجاء اليهودي فأنشدني: أيمم ركبانهم منعجا ... وقد ضمنوا قلبك الهودجا

واستمر إلى آخر القصيدة فأتى بكل حسن. فقال لي ذلك القرطبي شعر اليهودي أحسن من شعري، قلت: ولا بأس بفهمك إذا عرفت هذا، ولم يزل يتدرب باختلافه إلى حتى ندى تربه، وطلع عشبه، ثم تفتح زهره، وضاع عبقه. .).

والظاهر أن مسألة استعمال الغريب واختيار الألفاظ كانت من المسائل التي شغلت أذهان النقاد في عصر ابن شهيد وقبله، فقد عالج هذه الناحية أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين، وكان من رأيه (أن تخيّر الألفاظ، وإبدال بعضها من بعض من أحسن نعوت الكلام وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك منظوماً من حروف سهلة المخارج كان أحسن له، وأدعى للقلوب إليه. . . فينبغي أن تجعل كلامك مشتبهاً أوله بآخره، ومطابقاً هاديه لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، فتكون الكلمة منه موضوعة مع أختها، ومقرونة بلفقها، فإن تنافر الألفاظ من أكبر عيوب الكلام) والظاهر أن العسكري قد تابع غيره في هذا الكلام، فقد روي عن أبي أحمد. . أنه قال: (كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب، نختلف إلى مدرك نتعلم منه الشعر. . فقال لنا إذا وضعتم الكلمة بلفقها كنتم شعراء) وقد يطول بنا القول، لو أخذنا نتقصى أقوال النقاد في هذه الناحية، وإنما آثرنا كلام العسكري لأنه في مجموعه قريب الشبه بكلام ابن شهيد، فقد قال بتآخي الكلمات، وتخير الألفاظ، ومراعاة الحروف، وهذا هو معنى قول ابن شهيد: (إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيبُ النسيبَ، ومازج القريب القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة) إلا أن كلام ابن شهيد أدق وأعم، كما إنه يمتاز بالقول في اختبار الوضع النحوي للكلام مما سمها ملاحة النحو، وهذا ما لا يسبقه إليه أحد من النقاد، فحبذا لو درج الأدباء في أساليبهم من هذه الجهة على النهج الذي أوضحه ابن شهيد فإنهم يخدمون أساليبهم، ويخدمون لغتهم بإحياء كلمات اللغة المهجورة التي تصلح للاستعمال والتداول.

بقيت ناحية في كلام ابن شهيد السابق، وهي قوله بتأثير الأعضاء الظاهرة على الملكات الباطنة، فهذا كلام صادق إلى حد، بمعنى أنه لا يطرد في كل الشخصيات، فليس من الإنصاف أن نتخذه مقياساً للنبوغ، أو قاعدة نبني عليها الحكم على الآثار الأدبية، وليس أدل على هذا من إخفاق ابن شهيد نفسه حينما أراد أن يسوق الشواهد لإثبات هذا الرأي، فقد اضطر أن يفضل سهل بن هرون على الجاحظ، واستباح لنفسه أن يرمي الجاحظ بالغفلة وسقوط الهمة، والنقص في أدوات الكتابة، ثم راح يشرح ويدلل على هذا النقص فقال: (وربما أنكر قولنا في شرط جميع أدوات الكتابة، فقيل: وأي أداة نقصت الجاحظ؟ فنقول: أول أدوات الكتابة العقل، ولا يكون كاتب غير عاقل، وقد نجد عالماً غير عاقل وجدلياً غير حصيف، وفقيهاً غير حليم، وقد وجدنا من ينسب العقل إلى سهل أكثر ممن ينسبه إلى الجاحظ. . . ولو شاهد الجاحظ سهلاً يخادع الرشيد ملكاً ويدبر له حرباً، ويعاني له إطفاء جمرة فتنة، ناهضاً في ذلك كله بعقله وتجربة علمه، لرأى أن تلك السياسة غير تسطير المقال، في صفة غراميل البغال، وغير الكلام في الجرذان، وبنات وردان، ولعلم أن بين المعلم والكاتب فرقاً).

وهذا كلام قد تعثر ابن شهيد في إيراده، فلا تجده ينهض من جهة إلا ليسقط من جهة أخرى، فالجاحظ أكتب كتاب العربية غير مدافع، وابن شهيد يقول إنه لا يوجد كاتب غير عاقل، فكيف إذن يرميه بالغفلة وقلة العقل، وكيف يقدم عليه سهلاً لبراعته في مخادعة الرشيد، وسياسة الأمور، وهذه ناحية لا تقتضي من العقل أكثر مما يقتضيه القول في صفة غراميل البغال، وبنات وردان؛ فإن براعة الكاتب إنما تظهر فيما تفه من الأمور. وهيهات أن تخرج العربية خدناً للجاحظ في هذه الناحية. . .

(للبحث بقية)

محمد فهمي عبد اللطيف


مجلة الرسالة - العدد 71
بتاريخ: 12 - 11 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى