عبد العزيز الراشدي - زقاق الموتى

ع العزيز.jpeg


في زقاق الموتى أرتعد كلما تبدى بياض .كنتُ سيد أحلامي ،لكنها أحيانا ترهقني وأنا أمر مستندا إلى جدار الزقاق. تتحرك الكائنات في الزقاق وفي مخيلتي فترتعش ساقاي.آه يا بياض طفولتي ،كل شيء في زقاق الموتى في حلكة الليل أبيض ،حتى وأنا أغمض عيني وأركض تظل الأشياء حليبية تتراقص في غنج .

وفي بياض النهار، حين تطلع الشمس الحارقة، أركض نحو الزقاق لا يُدركني خوف ...أتحسس الجدار، وأؤكد التفاصيل كي لا تملأني الرهبة ليلا. وأسخر من نفسي ولا أتجرأ على إخبار الأصدقاء، أقول:ليست سوى خدوش هذه، وتلك بلغة مهترئة، وفي اليسار نخيلة لا تنمو ، ثم كيف تُفزعني هذه المسافة القصيرة؟ أسجل المكان وأهله بدقة، لكنني بالليل أنسى كل شيء، ولا تعود تراودني غير أحلامي، وقصص الذين سكتوا مرة واحدة، ولم ينطقوا لأنهم رأوا ما هو في علم الغيب، أو ماتوا بحسرتهم . أتذكر القبر والظلمة والملكين ومطرقة النكير فأسمع الهمهمات، وأُسرع فيسرع معي من يتعقب الخطى:ثمة امرأة وجدوها في الزقاق ميتة ،على صدرها خدوش حادة، والذباب الأزرق يصنع الولائم حول الدم المتخثر . و*أمي رحمة* المرأة الحنون محنية الظهر تدفع بالأطفال نحو الدنيا وجدوها بالزقاق ميتة. و بسمة الطفلة الصغيرة، كانت تجري فسقطت هناك في زقاق الموتى. رَشّوا الحليب في كل مكان تحركت فيه :حيث تلعب،حيت تركض ، حيث تخرج لسانها الصغير لنا ،وتكشف عن مؤخرتها نكاية بنا.ما عُدتُ أستطيع شرب الحليب لأنه يذكرني بجسمها الرخو. وحين يمر الموتى إلى مثواهم لا يمرون كراما، بل يظلون في خيالي: يتسامرون، يقهقهون، يلعبون،يصمتون أحيانا لأن الكلام انتهى،ينظرون بحزن إلى الحدود القصوى لمملكتهم .. ثم أخرج عند المساء و أركض، كي لا يمسكني الموتى، وألتفت فلا أرى سوى الظلام ،لكن العيون تظل ترقبني ما إن أسير.وإيقاع قلبي يعزف وأقرأ قصار السور ، ثم أرى أبي يدخل الدار لأن بيتنا في آخر الزقاق وأصيح به كي يترك الباب مفتوحا لكنه لا يسمعني .يُقفل الباب ويضع الرتاج وخشبة الأمان . وألحق الباب لاهثا، أطرق أطرق بكل القوة، والأعين تترصدني ،الأعين الميتة المخيفة الحزينة البريئة ، تلك الأعين التي أتحداها في الصباح، وأقول اظهري، ولا أجرؤ وقت الليل والغمام لأنها ترد الصاع صاعين . وأفكر في الحياة العنيدة، وفي جارتنا كثيفة الشعر على الوجه كرجل، مكتنـزة الشفاه كأنما تتأهب للكلام باستمرار.تجلس في الزقاق طوال اليوم تعد الموتى، على الأرجح ، ولا تموت. لكنها اختفت في يوم وقالوا وقالوا وبحثوا في كل مكان ثم شموا الرائحة.

وقد جرى في الزقاق ،بعد موت مكتنزة الشفاه، أن شيّعها الناس بعد العصر ووضعوا على قبرها الشوك. وزعت النساء علينا خبزا حارا بالفلفل، ثم اجتمع الأطفال بدوني، يتدارسون أمورا حسبتها خطيرة . تدافعوا نحو بيتها، وكنت في أعقابهم . دخلتُ فخرجوا و أغلقوا الباب دوني. ها إني أصبحت وحيدا مع كل أشيائها. مع صورتها التي لا تُفارِق وأقول ستظهر الآن لتقترب ببطء وتطوقني بلحمها البارد .

آه أيتها الأحصنة المالحة في حلقي، يا هذا الجفاف في مياه الروح،وهذا العرق المتفصد ،وهذه العزلة الفائضة . أتخيل موتي،أتخيل الكلاب في المقبرة تنبح: هوهوهو، والذئاب تعوي :عوعوعو، والموتى يتذمرون بأصوات لا أجيدها :حمممم حممم حمم. وأنا أحلم بالأصوات ذاتها ،شهرين متتاليين وأنا أحلم،والمرأة مكتنزة الشفاه تطير خفيفة حول فراشي،لا تفعل بي شيئا، لكنها تسلخ وجهها ثم تعيده، تنصحني بأكل النبق و تسألني عن بعض القلائد التي سرق الأطفال وتقول : طَمْئِنْ أهلي. أنا هنا مرتاحة .

ولقد مر بعدها بالزقاق رجل لم يغطوا وجهه، وكنت بالسطح، فبانت عيناه البيضاوان. ظل البياض يغزوني ويحرك في شهوة البكاء .أراهن الآن أني كئيب للسبب ذاته، كوني تطلعت وأمعنتُ وكدت اسقط لو لم تمسكتني يد .يد من يا ترى؟يد من؟.

تراب المزارات لم ينفعني ،وأمي مَلّت، لذلك تركَتْني حتى كبرت ُوشختُ، وعاد البياض قريبا مني، لكنه مُرعب على الدوام ،ثم حانت ساعتي، فجاءت المرأة التي كانت تتأهب ،كما يحدث في الأفلام على الدوام، حين يغادر الجسد ذاته ولا يذهب بعيدا لأن كل شيء يخترق صلابته،وجاء الرجل الذي كان يُصلح لنا الكهرباء، يمسك الأسلاك ولا يتأذى ،ويسأله أبي فيقول :

-الكهرباء صديقي .ويقهقه.

جاءت المرأة فَقَدّتْ مني شبحا ومضت.الشبح مني الآن وأنا منه. لكنه لا يفهمني. يظل طوال اليوم يفرضُ رغائب قارسة . يتجول في الزقاق وأنا لم أتكيف مع ليله بعد، يلاعب الكائنات التي ماتت،وأنا أخشاها.ثم آلف . الوجود فكرة مبهمة،والزمن يوضح كل شيء. أرى في الزمان ذاته ، والأمكنة الغامضة اللزجة، الفتاة الصغيرة وقد كبرت .ما عادَتْ تأبه الآن لمقالب أحد.تسير مرفوعة الرأس بجناحين يغطيان القليل ، ولا يكشفان طراوة الجسد و الدنيا. وأظل رفقة الشبح طوال الوقت، بنفس الزقاق، ثم نبدأ في اختصار المسافة،رفيقين هذه المرة ،فقد تعودنا على بعضنا ..

نسير متفقدين الأحوال كدورية الشرطة،دون سلاح أو حزام.تبدو الأمور عادية .يتوافد المزيد من الأشباح .لكن لا يظهر أبي في نهاية الزقاق ليغلق الباب دوني .وأجاهد كي أرسم صورته القديمة، لكنها تتسامى . ويتراكم الغبار حول الشجيرة الصغيرة، ولا يعود الشبح يشبهني فجأة،لأنه ملَّ السير والزمن لايتوقف. ثم أرجع قليلا إلى الوراء، إلى الشباب لأتوازن و أصنع ما فاتني. أُصبحُ أبا ،لكن ابني لا ينتظر كي أغلق الباب دونه.هو يغلق الباب دوني ويسخر. وأحاول جاهدا الابتسام في وجهه. وأعرف أن الحياة بالضبط هي زقاق الموتى. الحياة التي يَنْزَرِعُ الموت في كل مكان فيها. الحياة التي تَنْزع أضراس الناس بكُلّابِها. ثم أعود إلى الطفولة هذه المرة، في زقاق الموتى كي أهنأ قليلا . لا يهنأ جسدي لأن الزقاق دوما كالسابق..

وأسير في الزقاق وحيدا،كما الماضي، أخاف فأركض لأغادره .أظل أركض. هناك من يتعقبني.وقبل أن أنحرف إلى حيث منزلنا، حيث الخلاص،تصطدم رجلاي بشيء ثقيل فأتدحرج.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى