حسام المقدم - الأقفال.. قصة

لو لم يأخذ باله في آخر لحظة؛ لأكله الموتوسيكل وسائقه الموتور بسرعة سينمائية. خطف نفسه مُتفاديا الأزيز المجنون، ووقف مائلا فوق سياج الكوبري العتيق، مُغالبا سخونة الدم إثر صدمة تخيُّلية كادت أن تطوله في حارة المشاة. في الأسفل البعيد ماء مُخضر تتشكل موجاته الصغيرة بانتظام بليد، وخلف ظهره أقواس الكوبري الستة بلونها الرمادي تعلو وتهبط بالبصر نحو تشكيل هندسي منتظم. لو التفتَ الآن، سيجد أن صدمته التخيلية كانت على مشارف فجوة من الفجوات التي تحتضنها الأقواس وتمتد كمربعات استراحة من حارة المشاة. إنها مصادفة سعيدة لو تمت النهاية هنا! فهنا مشى واستراح مع “غير المأسوف عليها”. عبرتهما مئات العيون، رجّهما القطار المُدمدم، في وقفتهما الطويلة المعتادة أمام اللوحة الصلبة المستطيلة البارز فوقها تاريخ افتتاح الكوبري: 1907. هنا ملَّستْ يداها على حديد الأقواس الصلب بطريقة توحي بتتبع نبض شيء حي. كانت قد طلبت منه، في نوبة ثرثرة ضاحكة، أن يبحث على “النت” عن تاريخ هذا الكائن الحديدي الخرافي، وحكاية جمهورية “زفتى”، (مع أن بلدنا “ميت غمر” كانت أولى!). ابتسمَ لأُمنيتها المتعصبة البريئة، وغاب مع البحث والتدوين مُتحمسا مُستثارا. كان يحكي لها كل ما يُستجد وهو يدير دبلة الفضة حول إصبعه ويسحبها في عادة حميمة، ستصبح في هذه اللحظة موضع تأمل ساخر. إنه يديرها ويسحبها، تلك المصقولة المحفور عليها أعذب ثلاثة حروف يمكن أن تجتمع بمعنى. هذه الدائرة من الفضة الذائبة تحت الشمس تُسلم نفسها لإصبعين من اليد الأخرى، وتخرج خاضعة لعملية تأمل غير طويل، قبل أن تقطع طريقها مُتهادية ساقطة في المويجات التي احتفت بها بدوامة مناسبة لرأس دبوس. لقد استقرت في قلب العوامة المستطيلة المُفرّغة أسفل الكوبري، لتطول رقدتها وتُعمّر طويلا. هكذا تنبأت الجدات القديمات اللائي كن يأتين من قراهن في غبشة الفجر، حاملات ما يخص مولودا طازجا. يربطن “الخلاص” بثقل، وفي وسط العوامة يقذفن به ليستقر للأبد في القاع. بهذا سيطول عُمر المولود، وبهذا أخبرَ “غير المأسوف عليها” فضحكت واتسعت عيناها: “يا سلام!”. كانت تمتلك أحلى دهشة عينين عرفهما، وحين تتبع دهشتها بالكلمة السحرية: يا سلام؛ يكون ساهما، ماضيا في الحكي ليستمطر أكبر قدر من السلامات اللذيذة المُندهشة.

إبداعات قصصية | صدى.. ذاكرة القصة المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى