محمد مصطفى صفوت - أهمية دراسة التاريخ.. -2-

مركز التاريخ في التربية العقلية والجمالية كبير. فالتاريخ يزيد معلومات الدارس عن الحساة، ويوسع أفق تفكيره، ويرقي بقدرته على الحكم. وفي التاريخ يستطيع الإنسان البحث في أسباب الحركات العظيمة ونتائجها، وفي اتجاهات العالم لو أن حوادث هامة لم تقع. لا ريب في أن طريقة البحث الذاتي وقراءة المصادر الأصلية وتفسيرها ونقدها تثير همة الباحث وتبعث فيه حب الحقيقة والبعد عن التحيز. وفي التاريخ مادة تساعد على تقوية أنواع الذاكرة التي لدى الطالب، ففي رؤية الآثار والصور التاريخية ما يقوي بعض الأنواع البصرية من الذاكرة، والتاريخ يقوي التذكر السمعي إذا كان عند الدارس استعداد طبيعي لتذكر ما يسمع ولتذكر نوع خاص مما سمع. أما من حيث الخيال فللتاريخ قيمة كبيرة في تدريبه وتوسيع مجاله. فالتاريخ القصصي يشبع رغبات صغار القارئين في التخيل والبعد عن عالم الحقيقة الراهنة فيرون فيه أعمال البطولة، ويتلو الحوادث بعضها بعضاً فيذهب بهم الخيال كل مذهب ولكن في حدود الحقيقة. أما في حالة المراهق الذي يشرد به الخيال نتيجة لثورة قوية يهتز لها جسمه وعقله ويرجع الفكر به إلى الماضي البعيد للإنسانية أو يمتد به إلى المستقبل ثم ينقلب به إلى الحياة الحقيقية وهو كليل - يشفى التاريخ فيه هذه الرغبة في الرجوع إلى الماضي ويفسر له النظم الموجودة ويخفف من حدة شرود الفكر. ويجد الباحث والدارس لذة عظيمة في قراءته للتاريخ وتخيله للحوادث. فزيارة للأهرام والآثار حولها، وتخيل فرعون يأمر وينهي وقد عنت له الوجوه. . . كل هذا يستوقف النظر ويثير ويسمو به. ويساعد التاريخ على تذوق الفن والجمال. فهو معرض لنواحي الحياة الإنسانية: فهذا جانب السياسة، وهذا جانب الاجتماع، وهذا جانب العلم والأدب. هذه ناحية إرضاء الشهوات، وهذه ناحية إرضاء الروح. هذه هي آثار المصري، هذه مسلاته ومعابده. هذه هي آثار الفن على حياة الإغريقي. . . هذا هو الأدب الذي فاضت به النفس البشرية. ما الشعور الذي يغلب على النفس حينما فاضت به النفس البشرية. ما الشعور الذي يغلب على النفس حينما يزور الإنسان هيكلاً من الهياكل أو معبداً من المعابد أو مسجداً من المساجد أو قصراً من القصور القديمة، أو عندما يقرأ وصفاً لهذه الآثار! ما الإحساس الذي تحسه النفس حين تقرأ وصف البحتري إيوان كسرى أو وصف ابن حمديس لقصور أمراء تونس!

وأخيراً ننتقل إلى قيمة التاريخ العظيمة في التربية الوطنية والإنسانية. يولد الإنسان في مجتمع تربط أفراده علاقات متعددة، لا يدري شيئاً عن نظم ذلك المجتمع وقوانينه التي هي كنز خلفه الماضي، ماضي بلدته وماضي وطنه وماضي الإنسان؛ فالنظم والمثل العليا التي عينت سير الإنسانية في الماضي لا زالت هي التي تعين وتحدد السير في الحاضر، ولا مناص للإنسان من تلقي هذه التركة بما فيها من أعباء ومسئوليات. وكيف يقوم بواجبه نحو ذلك التراث ونحو الوطن والمجتمع الإنساني إذا لم يدرس هذه التركة وقيمتها؟ وقد لاحظ من المفكرين هذه القيمة، فقالوا بتدريس التاريخ القومي والاهتمام به اهتماماً خاصاً. ظهرت هذه الفكرة بشكل واضح في بروسيا عقب كارثة سينيا، وانتشرت في أوربا بين الشعوب التي تتحفز للظهور والوحدة. رأت هذه الشعوب أن الوطنية الحق لا تقوم إلا على أساس الفهم لنظم الوطن، وتقدير التركة التي خلفها، وتحمل المسئولية التي تركها، ومعرفة أيام عظمته وأيام محنته والعمل على نشر الرسالة التي خلق من أجلها. والتاريخ حينما يذكر بمجد الوطن ومحنته هو نفس الوقت يدعو إلى المحافظة على تراث الوطن سليماً للمستقبل، إن لم يكن زائداً فغير منقصوص، لأنه يخلق العاطفة والشعور الذي يدفع الفرد إلى القيام بواجبه وتنير السبيل أمامه. على أن الغرض القومي لا يجوز أن ينسينا الأمانة العلمية وحب الحقيقة.

والتاريخ ليس سجلاً لماضي الوطن فحسب، فهو سجل لماضي الإنسانية كلها. والنفس ميالة بطبيعتها إلى معرفة ما خلفه الإنسان في كل مكان، ذلك الإنسان الذي تربطها به وشائج القرابة والنسب. ولن ينكر مثقف قيمة ماضي الإنسانية لحاضرها. ويدلل المفكر الإنجليزي جراهام ولاس على هذه القيمة بأنه لو فرض وأصيبت الأرض بصاعقة لنسى كل فرد العادات والمعلومات التي أخذها من الأجيال الماضية فتسعة أعشار سكان لندن ونيويورك سيموتون في مدى شهر، وتسعة وتسعون في المائة من الباقي سيموتون في خلال ستة أشهر إذ لا يكون لديهم لغة ولا أفكار ولا معرفة بالقراءة والكتابة. . . والإنسان محتاج إلى إنسانيته القديمة ليحيا حياة طيبة، وكلما ارتقت به الحضارة زاد احتياجه إليها. والتاريخ يشرح لنا الفكرة التي تسيطر على العالم، فكرة التطور. قد يرى البعض أن العلوم الطبيعية والأدب يفسران ناحية منها، والتاريخ يفسر النواحي السياسية والاجتماعية، ولكن إنعام النظر يرينا أن العلم الطبيعي والأدب يدخل فيهما عنصر التطور نفسه ولذا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى التاريخ

التاريخ يضرب لنا أمثلة حسية على الحياة، فهذه حياة أناس عاشوا في ذلك العالم وأحسوا احساسات خاصة، تحاربوا وتصالحوا وطالبوا بحقوقهم وذادوا عنها أو انصرفوا إلى التمتع بالحياة وأحبوا الترف، ماذا كانت نتائج أعمالهم، ما بواعث فعالهم؟ يبين لنا التاريخ اختلاف الناس وأثر ذلك الاختلاف، وأن لكل فرد نحو بلدته ونحو وطنه ونحو العالم مهمة خاصة يؤديها في الوجود. وهو لا يبين لنا اختلاف الأفراد أو الطبقات فحسب، بل اختلاف الأمم والشعوب أيضاً، فلكل أمة رسالة قد أدتها أو هي في سبيل تأديتها للحياة. ثم هو يبين لنا اختلاف العصور، فكل عصر مختلف عن سابقه له طابعه الخاص في طرائق تفكيره ومنتجاته. فعصرنا الحاضر مختلف اختلافاً ظاهراً عن العصور الماضية ومشاكلنا والموازين التي نحكم بها على الأشياء مختلفة عن ميثلاتها في الماضي، ولكن الماضي ضروري لفهم مشاكلنا الحالية، فالحياة كما يوضح لنا التاريخ في تغير دائم، في تطور

يرينا التاريخ تعاون الإنسانية في ارتقاء سلم الحضارة، كما يرينا أنها سائرة في طريق النمو والتحسن، فالأفراد يحيون ثم يموتون، والأمم تقوم وتسقط، والحضارة تتقدم حيناً وحيناً تتأخر، ولكن النمو مطرد. فالإنسان كفرد تزداد حقوقه وأصبح أمامه مجال كبير لخدمة مستقبله وعائلته ووطنه والعالم. وينكر بعض المفكرين النمو في نواحي الروح والدين والأخلاق؛ فالعصور الماضية عصور الأنبياء. ولم تتقدم الأخلاق خطوة، فالقانون بين الدول لا زال قانون القوة. حتى في الناحية العقلية يشير البعض إلى مثل ذلك الجمود. فلا دليل في نظرهم على أن عقل الإنسان الحاضر أرقى من عقل أفلاطون. ويقول هكسلي إنه لا يعرف دراسة محزنة لتفسير تطور الإنسانية مثل دراسة التاريخ. فالإنسان لا زال وحشاً ولكنه خير من الوحوش الأخرى. وأحسن الحضارات الحديثة لم تظهر لنا مثلاً أعلى أو شيئاً جديراً بالبقاء ويرد على ذلك بأن التاريخ يرى لكل عصر مساوئه، وأن الإنسانية لم تبلغ بعد حد الكمال، وأن الطبيعة الإنسانية ذاتها لم تتغير إلا بمقدار ضئيل، وإنما الذي يغير تغيراً محسوساً هو تكيفها لظروفها الطبيعية والاجتماعية. ونمو محصول الإنسان من حيث المعلومات ومن الناحية المادية واضح، فكشف العالم الجديد وكشف كثير من قوى الطبيعة واستغلالها لمصلحته، وتكييف الإنسان للبيئة من إصلاح الأراضي وإزالة الغابات واختراق البحار والجبال والصحارى والهواء شواهد على النمو العقلي وعلى ارتفاع مستوى المعيشة. ولا ريب في أن زيادة المقدرة على التعليم والتعلم، وتقدم العلم وسهولة الانتقال هي في مصلحة الرقي العقلي والأخلاقي والروحي

التاريخ يصف التطور الاجتماعي لا العضوي والبدني، فإذا شعر الدارس بأنه يعيش في جو كله تطور ونمو فهو لا ينسى الماضي. سيقدر الحاضر ويزداد أمله في المستقبل. يعرف الدارس خلال التاريخ سر الإنسانية ويجد فيه أكبر خادم للفكرة الإنسانية ذاتها؛ لأنه يقلل من حدة التعصب لقومية أو لدين وعادات. فالتاريخ يبين أن العالم لم يقم على حضارة واحدة أو لغة واحدة أو دين واحد أو عسر واحد - فلكل حضارة نصيبها يغبنها التاريخ إياه - يرينا أن الأمم تبادلت ولا تزال تتبادل أنواع الحضارة. ولئن كان العلم قد أفاد فن الحضارة المصرية القديمة فهو مدين للفلسفة اليونانية والفن اليوناني والقانون الروماني. ولا ريب في أن مدينة العصور الوسطى في الشرق والغرب كانت أساساً عملياً لحضارة العصور الحديثة.

محمد مصطفى صفوت


مجلة الرسالة - العدد 500
بتاريخ: 01 - 02 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى