مصطفى احمد علي - البركة.. قصة قصيرة

تناول وجبته سريعا عقب انتهاء الدراسة. هل كانت من الملوخية التي تفوح منها “قدحة الثوم” ام مزيج اللبن الرائب والثوم وفطاير القمح الساخنة الزكية الرائحة؟ كان ذلك مناط اشتهاء الصبي ومبعث متعته وسعادته، وكانت أمه تسعد لسعادته وتهش لإطعامه.

استأذنها في العودة إلى المدرسة. لم يكن يدرك السبب وراء ذلك، فقد أبلغهم “ألفة الفصل” بذلك ولما اجتمعوا، قادهم “الألفة” إلى شرق المدينة، ميلين أو ثلاثة. كانوا صغارا، تتفاوت أعمارهم بين الثامنة والعاشرة. “أو فوق ذلك شيئا أو إليه دنا”، أما هو فقد كان أصغرهم سنا، لم يتجاوز بعد، سنته السابعة. ولما بلغوا بركة مياه عملاقة تمتد مع الطرف الغربي لقضيب السكة الحديد، نزع الصبية جلاليبهم واقتحموا مياه البركة، في صراخ وصياح وجلبة وسعادة ومتعة، اما هو فقد آثر أن يرقب المشهد من بعيد، دون أن يكون جزءا منه. لماذا امتنع عن تلك المتعة؟ أهو الحياء؟ ام انه استقذر مياه البركة الغبراء والاجساد نصف العارية؟ لا يذكر على وجه الدقة، لكنه لم يكن يدرك ما أدركه فيما بعد، أن اقتحام البركة مخاطرة مميتة، لا بد من أن يسبقها تعلم وتدريب على السباحة، لم يتوفرا له، فحمد الله، فيما بعد، على ذلك.
رجعوا بعد تلك المغامرة إلى دورهم بعد مغرب الشمس، حانقا على “ألفة” الفصل، بعد أن تبين له من القرائن أن إدارة المدرسة لا علم لها ولا علاقة لها بخروجهم ذلك.
ثم مضى عامان أو ثلاثة أعوام نسي فيها البركة وخبر البركة وأحاديث البركة، حتى حمل إليهم المشرف على طابور صباح السبت، نبأ غرق جاره في فصل الدراسة في بركة. اذهلهم النبأ، وتلفت حوله في الطابور فلم يجد الفتى. انفجرت المشاعر واستجاشت الخواطر، وذهبوا في طابور طويل، إلى بيت العزاء، وعلم هنالك ان الصبي مات غريقا في بركة السكة الحديد…البركة نفسها! ولما عادوا إلى فصلهم، لم يحتمل أن يرى مقعد جاره فارغا، ولم يحتمل أن يقرأ مقالا في “الإنشاء”، كان آخر ما خطه الفقيد في الدنيا. تغاضى عن أخطاء في النحو والإملاء، لاحظها، على استحياء، في مقال الفقيد، وهو بعد في تلك السن الغضة، واستغرق في صمت مطبق طويل، ودارت بخاطره ذكريات البركة ومشهد البركة وأحاديث البركة.

الرباط، يناير ٢٠١٩
د. مصطفى احمد علي

https://sudanway.com/sudanile/46468/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى