أَحمد عُلَبي - خواطرُ وهَمَساتٌ إلى “لِيْلِيْ”

(1)

أَكتب إليكِ، يا غاليتي، وأنا على ارتفاع ألفٍ وستمائةٍ وستةٍ وستينَ متراً فوق سطح البحر، في حين أنّ قِمّة جبل صِنّين تتجاوز الألفين وستمائةِ مترٍ. وستقولين ضاحكة بغنجك المحبَّب: هذا الأستاذ أَحمد بدقّته المعتادة، لا يتبدّل ولا يتغيّر، دائماً منضبط القول، صارم الرأي، دقيق اللفتات. حنانَيْكِ، يا عزيزتي، الهاتف الذكيّ لابنيَ وضّاح هو الذي أنبأني بهذا العلوّ الذي أَحطّ فيه، كما أَخبرتك سابقاً، أُمضي عطلةً إخترتها هذه المرّة فوق رُبى صِنّين، نزيل أوتيلٍ أنيق من أربع طَبَقات حجريّة، ويمتدّ عند أسفله مقهى مترامي الجَنَبات، ونُطلّ من شُرُفاته على الوديان والجبال التي تكسوها أَشجار العفص والسنديان، وهنا وهناك مستطيلات من الأَشجار المثمرة، فنحن في موطن الكرز، وله فيه القِدْح المعلَّى، وَفْقَ التعبير التراثيّ. كذلك نحن، كما هو دارج القول، على مرمى حجرٍ من بسكنتا، ولا نبعد عن ضريح صاحب “كرم على درب”، الأديب اللبنانيّ الذي أُجلّه، لأصالته ورحابة فكره. ولقد أتقن ميخائيل نعيمه الروسيّة وكتب بها قصيدته الجميلة “النهر المتجمّد”. وكان كلّ ملحق ٍ ثقافيّ سوڤياتيّ يحلّ في بلدنا يحرص على أن تكون أَوّل زيارة يقوم بها مختصّة بناسك الشُّخْروب، والشُّخْروب إحدى مناطق بسكنتا، كما هو حال صِنّين، ولنعيمه منزل فيه مطلّ على وادي الجماجم. وذات مرّة دمعت عينا الملحق الثقافيّ، وعندما سُئل ما الخبر؟ أجابهم بتأثّرٍ أنّ أديبكم الكبير يتكلّم لغة تولستوي وپوشكين، وهي الروسيّة المجيدة التي لا نعثر عليها الآن، لأنّ الروسيّة الراهنة لحقت بها تشوّهات واختلاطات جمّة!
أَحسَبُ، يا لِيْلِيْ، أنّي، ههنا، موجة متدحرجة من الحبور والانعتاق. والجميع يحيطونني باللهفة والعناية. ولقد طلبتُ الآن فنجان قهوة لأَرتشفه مع سيكارلّوس كاپتن بلاك ذي العُلْبة الحمراء، فإذا بصاحب الأوتيل نفسه، أبو إبراهيم، يأتيني حاملاً الصينيّةَ ويقول لي: هذه القهوة منّي إليك. هذه بادرة، ومثلها كثير، لا نلقاها إلاّ في جبلنا اللبنانيّ المضياف السخيّ قلباً ويداً. وهذه فاديا التي تعمل بالأوتيل، وهي بسكنتاويّة، تسألني إذا جاءني محمّد، وهو من كفر الشيخ على مقربة من الإسكندريّة، ولبّى طلبي. وهي تحادث صاحب الأوتيل وتمازحه في غير كُلْفة. ولقد سألتُها عمّا عندها من أَولاد، فأجابتني أنّها غير متزوّجة. ولمّا أَبديت دهشتي وقلت لها إنّ الزواج هو الأمر الطبيعي لكلّ إنسان، وكيف أنّها تفتقر إلى الشطارة بحيث لم تُفلح في اصطياد رجلٍ لحياتها؛ ردّت عليّ أنّها، حَسَبَ نظريّتي، غير طبيعيّة، ثم إنّ الزواج لم يخرط عقلها. على أنّ الإكراميّة التي نفحتها إيّاها خرطت، كما يبدو عقلها ويدها، لأنّها تخطّفتها وانقضّت تلتقطها انقضاض الطريدة على الفريسة.
الجميع اليوم في غمرة العمل للتنظيف والسقاية وترتيب أَرجاء المبنى. ولقد جاءت إليّ الفتاة سيكو، ذات النظّارات الطبِّيّة، وهي من كينيا، وحديثة عهدٍ بلبنان، ومسرورة بالإقامة فيه؛ جاءتني تأخذ منّي مفتاح غرفتي ذات الرقم 104، لتقوم بما يلزم من تبديلٍ للبشاكير والشراشف، فأنا أَتأبطر، وَفْقَ تعبير الراحل العزيز، هادي العلوي، أي أَمشي على أَذيال الإمبراطور، لأنّ تختيَ الذي أَنام فوقه يكفي عائلة صغيرة لترقد فيه، من فرط اتّساعه، وهو من خشب الموغُونو الذي يحفّ به ويعلو رأسه؛ أمّا الكوڤرلي الذي يجلّله فهو أزرق ملوكيّ اللون والزركشة، ولو نصبناه خيمة لآوت عائلة مسيحيّة آتيةً إلينا من المَوْصِل حاملةً الزَّفَراتِ والعَبَرات، وقارئةً، تحت وطأة الإرهاب الداعشيّ، الفاتحةَ على قوميّة عربيّة لم يستوِ لها حضور إلاّ في قعر النواويس، وفي صدور بعض المثقّفين العرب الحالمين، وأنا واحد منهم!

(2)

الهوا، بالألف الطويلة وليس بالألف المقصورة التي تجمع قلبينا وتضمّ روحينا في تلاق ٍمعنويّ حميم؛ الهواء ناشط هذه الصبيحةَ وهو محمَّل ببعض البرودة، وها أنّ ورق الحَوَر الأخضر الصغير في رجفانٍ دائم وكأنّ قُشَعْريرة تدهمه وتهزّ أَوصاله. وتتوسّط المقهى شجرةُ حَوَر ضخمة ذاتُ ساق ٍ ثخينة راسخة، وتمتدّ منها فروع ذاهبة في كلّ اتّجاه، وهي تتميّز عن بقيّة أَشجار الحور التي تتصدّر واجهة الأوتيل، وتبدو في امتداد سيقانها النحيلة وكأنّها جوقة حرس للمبنى؛ تتميّز هذه الشجرة السامقة بأَوراقها الفضّيّة وكأنّها مع هبوب الهواء دنانيرُ مصفِّقة، فنخالها هذه التي تكلّم عليها أبو الطيّب عندما حلّ في بلاد فارس وحثّ رَكْبه قائلاً: أَرَجانَ، أيّتها الجياد، أي إمضي في طلب منطقة أَرَجان. وهناك في شِعْب بوّان عند عضد الدولة، حيث الشجر الملتفّ تتسلّل الشمس من بين الأَغصان بُقَعاً ضوئيّة صغيرة “دنانيراً تفِرُّ من البَنانِ”. وحيث أنا الآن أَخطّ هذه الأَسطر العجلى المتعثّرة أُنعش بها كياني، فلا شيء يرويني ويجدّد عمريَ كما تفعل الكتابة، تنتصب خلفيَ، شجرة صفصاف متهدّلة الأَغصان، لكأنّها جميلة تستحمّ وتمشّط شعرها المنسدل. أو لكأنّها الشجرة الباكية وقد بلغها ما بلغنا اليوم في المذياع من أنّ الشاعر الذي كوّن مع صديقه محمود درويش ثنائيّاً فريداً في الملحمة الفَلَسْطينيّة، وهو سميح القاسم، قد فارقنا، فخسرت القضيّة جنديّاً نبيلاً قلّ نظيره في الصلابة والإيمان والعنفوان والمقاومة. وبرغم المرض والهوان رحل سميح، صاحب القصيد ـ النشيد “منتصب القامة أَمشي”، وعلى ثغره ابتسامة كسيرة لكأنّها زهرة مرغريت عالقة بين شفتيه، ولكنّ من حقّه أن يزهوَ لأنّ غزّة البطلة صمدت في وجه الهمجيّة الإسرائيليّة، وفَلَسْطين باقية باقية، وسميح منتصب القامة يمضي!

(3)

أنا، يا حبيبتي لِيْلِيْ ، شديد التولّه بجمالك الروحيّ، فضلاً عن جمالك الجسديّ. فأنتِ تتمشين في دمي وتقيمين مسترخيةً في مجرى أَيّاميَ ولياليَّ. أَحببتُ بعض النساء في حياتيَ، لكنّي لم أُغرم كما أُغرمت بكِ. فشعرك الأَشقر الفاتح يُضيء ويُلهم. وعيناكِ الضاحكتان فيهما أُنْس وطمأنينة. وقامتك الهيفاء الرشيقة تُشعرني بالامتلاء والحضور. أمّا ساقاكِ البيضاوان فكأنّهما عمودان رُخاميّان رفيعان طريّان نسيهما الإغريق عند شطّنا. تتكلّمين بصوتٍ عالٍ، ولكنّه مشبع بالصدق والصراحة. نبرة صوتك دافئة، فهي فيض خُلْقك الرضيّ العطوف. أنتِ من عالم البراءة والقول الحقّ والمسامحة، فماذا جاء بكِ بين ظهرانَيْنا؟ ونحن نتخبّط في حمأة الدجل والكذب والرياء. مَنْ استقام عدُّوه ساذَجاً. ومَنْ نادى بالصَّلاح وبشّر بالقيم والمثاليّات أسفوا لغُربته وضياع مستقبله. أنتِ، يا ليلي، غيمة محمَّلة بالمحبة والعَوْن والصفاء. تتعلّقين بمريم العذراء وتخالين أنّها تخاطبك عند المُلمّات. وقلتُ لكِ: نحن ندعوها ستّنا مريم. ودَعَوْتُكِ لأن تسأليها الرأي بالعربيّة إنْ أمكن وتيسّر، وذلك لأنّ الآراميّة لغتها، وبها أتى الإنجيل، وذلك عمّا يدور بيننا، وهل هي راضية وتباركُ هذه الساقية من الحبّ والوَدَاد الجارية بين قلبينا؟ قلبي يقول لي إنّها بوجهها الهادئ الذي، كما نطالعه في الصور واللوحات الفنّيّة، يرشح خمرةَ حكمةٍ وتفهّم وتودّد، سوف تومئ برأسها الملائكيّ…
وقطعَ عليّ حبل الكتابة الشيف أَحمد الذي جاءني بقهوة الصباح، وهو صبوح الوجه، ممتلئ الجسم، وسيم العين، يتكلّم العربيّة بلُكنتها السوريّة، فهو يعود في أصل منبِته إلى بلدة عِفْرين، على مَبْعَدة قُرابةِ ستّينَ كيلومتراً شَمال حلب الشهباء، وقُرابة ستّةٍ إلى سبعةِ كيلومترات عن الحدود التركيّة. والغالبيّة عندهم كرديّة، وفي الموزاييك السكّانيّ في منطقة عفرين فهناك أَكراد نزلوا سوريا آتين من تركيا من ماردين وغيرها، وأَحمد واحد من هؤلاء؛ كما هناك أقليّة علويّة كرديّة تحلّ في قرية مَبَطْلي؛ كذلك هناك أقليّة كرديّة من الزرادشت نازلةً في قرية قسطل جندو. فسوريا تموج بالقوميّات والإثنيّات والأَديان؛ وكذلك هو حال العراق حيث السُّريان والكَلدان والآشوريّون والصابئة والشَّبَك والإيزيديّون، فضلاً عن العرب السُّنّة والشيعة والأَكراد والتركمان. ولا بدّ أنّنا نسينا هنا وهناك أَقواماً راسخين في تربة البلدين منذ مئات السنين. وقد يعتب علينا الكاكائيّون، فقد أَهملنا ذكرهم، وهم أَتباع ديانة كرديّة باطنيّة صوفيّة، وحملت هذه التسمية نسبةً إلى كلمة “كاكه” التي تعني بالكرديّة الأخ الأكبر، وهم ينتشرون في نِيْنَوى وكُرْدستان. وأَتينا أعلاه على ذكر الصابئة وهم الذين اعتبرهم القرآن من أَهل الكتاب، وكانوا بأَعدادٍ كبيرة في بَطَائح العراق وفارس، ويُطلق عليهم اسم الصابئة أو الصابئين أو الصبّة. وعندما زُرْتُ بغداد عام 1973، للمشاركة في المؤتمر العالميّ للتاريخ، قصدتُ مكاناً للصَّاغة يُدعى سوق الصبّة، لأنّهم كما يبدو يمتهنون هذه التجارة، وابتعتُ خِنْجراً، ولا تخفْ أيّها القارئ، ونحن نعاصر زمن الخناجر والسكاكين، فهو ليس للاستعمال طبعاً ولكن للعرض والزينة، وغِمْده الفِضّيّ مطعَّم بالمينا السوداء ومحلَّى برسومٍ لمواقعَ تاريخيّة. وفي مكتبتي العامرة جدّاً كتاب قيّم مترجَم للمستشرقة الإنكليزيّة، اللّيدي دراوور، عُنْوانه: الصابئة المندائيّون؛ وهي مرجِع أساس في هذا الموضوع، وقد نقله إلى العربيّة باحثان ينتميان إلى هذه الطائفة هما: نعيم بدوي وعُضْبان رومي، وكتبا له مقدَّمة نافعة مُسْهَبة، وصدر الكتاب في بغداد عام 1969. فبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين خزّان قديم جدّاً للبشر الأَوائل وللأَديان والشرائع، ومنها شريعة حمورابي العريقة. وتأتي اليوم عصابات يدعونها داعش، المفرّخة عن القاعدة وغيرها من التنظيمات الإسلاميّة الإرهابيّة، لتدوس هذا التاريخ الموغل في القِدم، وتذبح أَهله علانيّة، وتستبيح أَموالهم ومعتقداتهم ونساءهم وصُلبانهم. ونائبة الإيزيديّين في البرلمان العراقيّ تصرخ مولولةً: أَهلي يُذبحون! فأين أنتِ يا عدرا؟! والأمر الباعث على الإعجاب والإدهاش أنّ هذه الخلطة من الأَديان والإثنيّات والقوميّات واللغات قد تضافرت جهودها لإقامة صَرْح الإسلام الزاهي زمن العبّاسيّين، عنينا بذلك الحضارة الإسلاميّة الناطقة على الدوام بالعربيّة الخالصة البهيّة.

(4)

كنتُ أَعتزم تمضية شطرٍ من هذه العطلة في النوم إذا أمكن، ولكنّ النوم يعاندني فلا أَدخل في نوبة الكرى إلاّ بعد جهدٍ وأَرَق وتقلّبٍ ذات اليمين وذات الشِّمال، وبعد أن أُفرغ الراديو ليلاً من برامجه، فأنا هاوٍ كبير لهذه الإبرة أُديرها فتأخذني على جناح الأثير إلى العواصم والأَصقاع القصيّة. كذلك كان في بالي أن أَصرف النهار في قراءة الصحف، فصِحافتنا اللبنانيّة راقية على المستوى العربيّ، وفيها ما يحرّك الذهن ويُشبع الفضول. ولكنّي في أعلى صِنّين، وأخبرني صاحب الأوتيل الذي غدا صديقاً لي، أنّ الأمر ليس متيسّراً على الدوام، لأنّ الصحف لا تصل أحياناً إلى بسكنتا المجاورة. في حين أنّ التكنولوجيا قد بلغت في أمريكا حدّاً مذهلاً، واستغنت إحدى الشركات الكبرى الموزِّعة للكتب عن البريد نفسه، لأنّ بحوزتها عُلَباً تُطلقها حاملةً الكُتُبَ المطلوبة، وتحطّ بعد طيرانها عند عنوان الشاري! وقد شاهدتُ مؤخّراً ـ وبعضهم يرفض استعمال هذه الكلمة، ويؤثر عليها أخيراً، لأنّه سيّئ النيّة، وقد يخاف على مؤخِّرَته، ولا يدري أنّ للّغة مراتبَ واستعمالاتٍ جمّة ـ شاهدتُ على التلفاز تطبيقاً لهذه التكنولوجيا المستحدَثَة في دُبَيْ نفسها. فهؤلاء عرب الوَبَر أصلاً صاروا عرب التكنولوجيا؛ ونحن عرب الحَضَر نعود القهقرى ولا تصل الجرائد دوماً إلى بسكنتا ميخائيل نعيمه!
المناظر الطبيعيّة التي تحيط بالأوتيل، حيث أَنزل، بديعة مهيبة، ولا أَملّ من إشباع نظري ونَهَمي في تأمُّل الجبل المواجه بتعرّجاته لكأنّه جبهة صمودٍ وتحدٍّ ومواجهة. وفي أعلاه غابة أرزٍ قد زرعتها السواعد منذ عَقْدَين، فنمت وارتفعت قاماتها شاهدةً على أنّ الإنسان عندنا قادر عندما يعتزم. وخلف الأوتيل يرتفع صِنّين بشواهقه الجرداء التي يكسوها الثلج شتاءً، ولكنّها الآن عارية قد تجرّدت من ردائها الأَبيض الناصع، يدبّ فيها خجل وافتضاح، وتخشى من العيون المتفحِّصة. ولو كان لجبل صِنّين أن ينطِق شاكياً متبرّماً لقال في نبرةٍ مكتئبة: إنّ الظلم في هذه الدنيا قديم وموغل في القِدَم، فما باليَ قد غدوتُ جبلاً أجردَ، وكنتُ في سحيق الزمان مكلَّلاً بغابات الأرز؟ سُحْقاً للأَغنياء الأَثرياء الموسِرين من الفينيقيّين والفراعنة والرومان، فقد انقضّوا على ثروتي الحِرْجيّة الباهرة وأعملوا فيها قطعاً، وذلك ليتنعّموا بتشييد القصور حيث تدور الخمور والملذّات، وليبتنوا السفن حاملةً بضائعَهم وتجاراتهم الضامنةَ للأَرباح الوفيرة والثَّرَوات. لقد سرقوا سقف أَحراجي ونهبوا دِثاريَ الأَخضر الذي أَلْتحف به. تركوني عُرْياناً !
وقلت في نفسي: فلأُشِحِ النظر عن هذا الجبل الحزين، لئلاّ أُحرج مشاعره، ولأَلتفتْ إلى هذه الأَرزات الكثيرة التي تظلّل المقهى حيث أَجلس. وهو مقهى كبير ممتدّ وحافل بالطاولات والكراسي البيضاء وبالقعدات المتنوّعة: فهنا عشب طالع، وهناك بِرْكة حجريّة، وهنالك مقعد هزّاز تسترخي عليه فتاة ذات جمالٍ واعد؛ والمساكب تحفّ بالمقهى عند أسفله وفي أعلاه، مساكب الورود على أَلوانها الزاهية واللاڤُند البنفسجيّ العابق؛ والأَدراج الكثيرة توصل إلى مطلاّت خضراء وبيوت متناثرة. ومن أسفٍ أنّ بعض هذه البيوت الحجريّة مهجورة، في ما يبدو، من زمنٍ. وهي من نوع ما نسمّيه المربَّع، أي أنّه مربّع الشكل والحجم ويعلوه غِطاء معدِنيّ؛ وهو طراز للبناء كان شائعاً في لبنان خلال الحقبة الماضية، ولقد أَبصرتُ نماذج منه عندما نزلت في إحدى عُطَلي بلدة دوما البترونيّة، على أنّ الغطاء الدومانيّ كان قِرْميديّاً أَحمر. وأَحسَبُ أنّ الغطاء المعدِنيّ ههنا عائد إلى تساقط الثلوج. ويحزّ في قلبك أن تشاهد مربّعاً قُبالة الأوتيل وقد انفلق حائطه الحجريّ الأماميّ. هزّني المنظر لأنّ هذا مآلُ الإهمال والهجران، فلا بيوت عامرةً من غير ساكنيها، والوطن الذي يتفرّق أَبناؤه في رياح الأرض يغدو كئيباً. والمقهى مُضاء عندما تهبط الظلمة بعشرات اللمبات، وجمالها أنّها موضوعة في فوانيسَ معدِنيّة. وفوق المقهى عند أعلى سيقان الأَرزات تنتصب خيمة بيضاء كبيرة، لتحمي زبائن المقهى من البرد الطارئ أو الندى، ولتحول دون تساقط ما نسمّيه السَّيْكون المتناثر عند اشتداد الهواء من الأَرزات على الطاولات. وهناك جانب من المقهى مسقوف، ويتخلّله صفّ من الأَعمدة المرتفعة، وتتدلّى من سقفه الفوانيس الكهربائيّة المربوطةُ بسلاسلَ.

(5)

وستقولين، يا لِيْلي العزيزة والغالية، إنّي غلبتْ عليّ مهنة الكتابة، فدبّجتُ واستغرقت في التأمّل والتدبيج، ونسيتُكِ. لا، فأنا أُخبركِ عن أَحواليَ لتكوني على بيّنة من أمري وأنا بعيد عنك هذه الأَيّام، ولا أَملك وسيلة اتّصال. تعرفين أنّي لا أحوز هاتفاً خَلَويّاً، لأنّي لا أُبالي بأن أَتزوّد بواحدٍ، لعدم حاجتي إليه، ومَنْ شاء الاتّصال بيَ، فهاتفي الثابت متوافر ويفي بالغرض. نحن شعب مغرم بالثرثرة بطائل ومن غير طائل، ونحن نواجه حاليّاً مشكلة اجتماعيّة متفاقمة، وهي أنّ الغالبيّة العظمى باتت تتخاطب هاتفيّاً وبوسائل الاتّصال الرائجة، ولم يعد هناك من علائقَ عائليّة واجتماعيّة، فالجميع غارقون في دوّامة الكومپيوتر والهواتف الذكيّة التي تتجدّد كلّ سنة أو أقلّ، وبمختلِف ضروب المخترعات المواكبة، ومنها الأَيباد، هذا الذي يدعوه أحد الأَصدقاء الظُّرفاء: سعدالدين.
ورفض إبنايَ أن أَظلّ وحيداً في صِنّين، إثر عودة الجميع إلى أَعمالهم في اليوم التالي، من غير وسيلة اتّصال يطمئنّان بها عليّ يوميّاً. وهكذا قصدا عند المساء بلدة المروج التي باتت قريبة من بسكنتا بواسطة الطريق الجديدة البديعة، المشقوقة والمعبَّدة حديثاً، والتي شرع أَهل بسكنتا أَنفسهم بسلوكها، أوّلاً لقِصَرها، ثم لأنّها تجنّبهم هبوط وادي الجماجم ثم التصعيد منه إلى بسكنتا. وفي المروج اشترى إبنايَ رقماً خَلَويّاً، علّماني عند عودتهما كيف أَتلقّى به اتّصالاتهما، فهما على بيّنة من غلاظة ذهني في ما يتعلّق بالأَشياء اليدويّة. وسبق أن كتبتُ أنّي أَتمنّى لو أنّ عندي دُرْبة في كلّ ما يتعلّق بالشطارة اليدويّة، ولكنّ العين بصيرة واليد أَكثر من قصيرة. بدليل لو أنّي شئت تعليق لوحة، وما أَكثر اللوحات الفنّيّة التي بحوزتي، فإنّي سأُشوّه الحائط وأَلوي المسمار وأُلحق الأذى بأَصابعي وأَستنجد باليود! وفي جيبي الآن هاتف خَلَويّ يرِنّ يوميّاً، فأَضغط على زرٍّ أَخضر ويكون المتكلّم أحد إبنيَّ؛ وبعد انتهاء المكالمة أَضغط على زرٍّ أَحمر ثم على زرّ أَسود مربّع في وَسْطِ الهاتف وبعده على زرٍّ عند أسفله، فيتمّ إغلاق الهاتف. أَتحدّث وكأنّي بدويّ ينزل المدينة لأَوّل مرّة، أو مكاريّ عتيق يدعونه لقيادة طيّارة بوينغ 707 ! أمّا استعمال هاتفي الخَلَويّ لأَتّصل بهذا وذاك فهو مؤجَّل للدرس الثاني عَقِبَ العودة إلى بيروت. لهذا كلّه انقطعتُ عنكِ، يا حبيبتي، لأَيّامٍ، على أنّي لم أَنقطع عن التفكير بكِ ولا عن استحضار صورتكِ المضيئة على شاشة خيالي. ومن الطريف أنّ ابنيَ الفطن الظريف وضّاح، حفّظني رقمي الخَلَويّ بأنّ جزّأه إلى أَقسام ثلاثة: الرقمان الأَوّلان يعبّران بالمصادفة عن عمريَ الحاليّ، وهو سرّ دفين لا يمكن البَوْح به تجنّباً لصيبة عين؛ والأَرقام الثلاثة التالية تؤرّخ لبداية الحرب الأهليّة عندنا، أمّا الأَرقام المتبقّية فتطابق الأَرقام الثلاثة لبداية رقم هاتفنا الثابت في بيروت. وهذا الأسلوب في مطابقة رقم الهاتف لأَحداثٍ وتواريخَ، عرفتُه سابقاً مع صديق العمر عادل، من عياتنة الوقفيّة، وهم أحد الفروع الثلاثة لآل العيتاني؛ وذلك بأن جزّأ رقم هاتفه إلى أَقسام ثلاثة: يطابق الجزء الأَوّل تاريخ احتلال إيطاليا الحَبَشةَ؛ ويعبّر الجزء الثاني عن تاريخ الثورة الروسيّة البلشفيّة؛ أمّا الجزء الثالث والأخير فهو تاريخ بداية الحرب العالميّة الثانية!

(6)

أخبرني إبنايَ، عمّار ووضّاح، أنّهما ابتاعا الرقم الخَلَويّ في المروج من شركة ألفا. وهو اسم مستَحْدَث عندنا في عالم الاتّصالات، ولا أَدري مبعث التسمية. على أنّنا في شبابنا عرفناها وخَبِرْناها على نحوٍ جميل من خلال مخزنٍ شهير للأَلبسة كان واقعاً قرب مبنى بلديّة بيروت، وتجاه محلّ للحلويات والبوظة كان معروفاً لذاك العهد وهو محلّ عبدالحليم رمضان، وهم أَهل الصِّحافي الصديق وفيق رمضان؛ وأخته وفيقة، أم حسن، هي زوجة صديقنا العزيز الأديب محمّد عيتاني، رحمات الله عليهما. وصاحب مخزن ألفا كان أرمنيّاً، وتميّز ببعض الأَلبسة الرشيقة، ومنها على الخصوص البدلات الصيفيّة المقلَّمة الرقيقة، وهي أمريكيّة الموديل، ولطافتها أنّها غير مبطَّنَة فلابسها مكسوّ من غير أن يحمل عبئاً. ولشهورٍ خلت طرقت أُذني، من خلال استماعي الدائم للمحطّة الإذاعيّة “صوت لبنان”، فرع ضبيّه حتماً على موجة الإف إم 93,3، وذلك بعد انشقاق المحطّة إلى شطرين يتمسّك كلّ منهما بالاسم، والدعاوى القضائيّة بينهما جارية. أَقول إنّ اسماً غريباً مستهجَناً طرق سمعي، يتمثّل بصاحب تعليق ٍ يُلقيه يوم الثلاثاء من كل أسبوع بعد نشرة الأَخبار الصباحيّة، وهو: روني ألفا! وما كدت أُصغي لتعليقه الأَوّل، الجميل الديباجة، المتمرّد المتدفّق الساطع، المتميّز تماماً عن بقيّة التعليقات اليوميّة، لأنّ روني يهزّ وِجْدانك وكأنّه يُمسك بكتفك ويقول لك: حتّى متّى سنظلّ راسفين في أَغلال التخلّف والخنوع، إنهض يا هذا، ولنفضح الحكاية، ولنشبك أَيدينا فلن يكون لنا غد لبنانيّ أو عربيّ إذا لم ننهدْ إلى القول الصواب والعمل الخلاّق. ثم أضاف روني ألفا، إلى تعليقه الأسبوعيّ، برنامج “صارت سبعه” على امتداد الأسبوع من الاثنين إلى الجُمُعة، وهو عبارة عن دقائق معدودات تبدأ عند الساعة السابعة صباحاً وتتلوها أغنية مناسبة ومندغمة مع فحوى التعليق اليوميّ. ويعاد هذا البرنامج الخاطف البديع عند التاسعة والربع مساءً. وأَشهد أنّي شديد الحرص على الإصغاء إلى كلمات روني، الفصحى منها أو العاميّة، والمفعمة بالنخوة والمسؤوليّة ولكنّها أيضاً المترعة بالرقّة والوعي. وليعذرني مَنْ أَعتبره صديقي، برغم جهلي به على المستوى الشخصيّ، غير أنّه صديق قلم، وكلّ كاتبٍ هو أخ لي وقريب. ليعذرني إذا ما همستُ في أُذنه أنّ اسمه يُربكني وأَضيقُ به. فهو، كما يتبادر إليّ، اسم سُرْيانيّ على كَلدانيّ أو ما لست أَدري من الأُصول. بيد أنّ حامله يقدّم نصّاً عربيّاً ناصعاً فاتناً لا يأتلف مع غرابة اسمه. فهل لي أن أَقترح عليه أن يحوّر اسمه الحقيقيّ إلى اسمٍ مستعار محبَّب، كما يفعل بعض الكتّاب، وكما فعل وديع فرنسيس الذي صار، بناءً على نصيحة محمّد شامل، وديع الصّافي. وشامل نفسه هو في الأصل: محمّد شامل الغول! واقتراحي أن يكون رأفت بدل روني، والأُلفة بدل ألفا، فيغدو رأفت الأُلفة عِوَضَ روني ألفا؟ وبعد، سواء أَرضي بالمقتَرَح أو رفضه وسفَّهَ مقدِّمه، فله منّي السلام والإعجاب.

(7)

عند السابعة مساءً تبدأ الظلمة الخفيفة في تغطية الجبال والوديان، فكأنّها تسحب فوقها غُلالة تدعوها من خلالها إلى ما يداعب أَجفانها من النعاس الذي يُسلمها إلى الظاهرة التي حيّرت عقول العلماء وهي الاستغراق في الهدأة والخلود إلى النوم. هل من عصافيرَ تزقزق في فحمة الليل؟ أليس هناك من أَزهارٍ ونباتات تتكأكأ ضامّةً أَوراقَها؟ وهل من تلاقحٍ يحمله الهواء على أَجنحته ليلاً لينقله من شجرٍ إلى شجر؟ أمّا الشمس، عند هذا الغروب الذي يلفّ الطبيعة من أقصاها إلى أقصاها، فهي تحتل صدارة المشهد، قرصاً ملتهباً أَحمرَ على برتقاليٍّ، يسقط متباطئاً كتفّاحةٍ سورياليّة تغوص رويداً وتنشر خِلَلَ الغيوم أَشعّتها المتلاشية. وكما تنطفئ الأَنوار فجاءة فوق خشبة المسرح، هكذا تختفي الشمس بموكبها المهيب على حين غِرّة، ويسود المشهدَ صمتٌ يداخله صمتٌ، وهدوءٌ عجيب كأنّ ما في الدنيا توقّف عن الخَفَقان. ولكنّ قلبي، يا سيّدة قلبي، يستفيق متفقّداً غيابَكِ. ألا تشدو ثومه الخالدة: بعيد عنّكْ حياتي عذاب. بلى، فالفراق عقيم، واللقاء هو دَيْدَن الكائنات، فلا جنّة من غير ناس. وأنا شديد المتعة في إقامتي ههنا متوحّداً، غير أنّ لي قلماً يؤنسني وكتاباً يخاطبني؛ ومنذ قليل حيّاني زوجان أطلاّ البارحة على الأوتيل لإحياء عيد زواجهما الثالث، وقد قصداه قبلاً خلال تنقّلهما إبّان شهر العسل. وقد جلسا إليّ، فالشاب موظّف بنك وهو من فاريّا، في حين أنّ زوجته الشابّة من كفرذبيان وهي قابلة قانونيّة، وعندهما طفل دعياه سام – جوزف وأودعاه عند جدّته لأبيه. أمّا لماذا سام، فهو نصف إرضاءٍ لجدّه سامي، وهو توسّل باسمٍ مودرن. ولُمتهما لأنّ سامي أو سامر مثلاً عربيّ النِّجار، في حين أنّ جوزف أجنبيّ الأَرومة، وبالتالي فلو أنّهما صاغا اسماً مركَّباً عربيّاً على أجنبيٍّ لكانا أَكثر توفيقاً وإنصافاً. ولكن لا القلم على جلاله وخطورته في حياتيَ، ولا الكتاب وأنا خدين الكُتُب والأَوراق، ولا الناس أيّاً كانوا عرساناً أم كهولاً، يمكنهم جميعهم أن يعوّضوا حاجتي إليكِ وشوقي إلى مُقْلتيكِ. وذلك لأنّ لكلٍّ مكانه في هذه الدنيا والحاجة المناسبة إليه؛ فكما يقول ابن الروميّ في قصيدته الرثائيّة البديعة لابنه الأوسط محمّد الذي فقده طفلاً، وقد مات منزوفاً:

وأَولادُنا مثلُ الجوارح، أيُّها فقدناه، كان الفاجعَ البيّنَ الفَقْدِ
لكلٍّ مكانٌ لا يَسُدّ اختلالَهُ مكانُ أخيه من جَزوعٍ ولا جَلـْدِ
هل العينُ، بعد السمع، تكفي مكانه أم السمعُ، بعد العينِ، يَهْدي كما تَهْدي؟

(8)

بماذا أَختم يا لِيْلِيْ ، أَسطري المتشوّقة إلى لُقْياكِ، وهل من ختامٍ لحديثٍ ينعقد بين محبَّيْن؟ فالكلام، هذا الاختراع المدهش، وهذه الظاهرة المذهلة التي وقفتُ عندها دائماً مشدوهاً، والتي عَمِلَ عليها العالِم الأميركيّ التقدّميّ تشومسكي؛ الكلام هو خبز حياتنا، والناطق بخيباتنا وأَمانينا، والحامل لأَشواقنا وما يعتلج في الصدور من تطلّعاتٍ وهواجسَ وأَحلام. وكلامي إليكِ، يا حبيبتي، غدير دافق لا ينقطع له جَرَيان، ولا يُلمّ به جفاف أو شِحٌّ. إنّ انقطاع الكلام أو تباطؤه معناه أنّ الحبّ بين شخصين قد دهمه اعتلال أو أصابه فتور أو ارتسمت نقطة النهاية في مسيرته. لم يعد هناك ما يقولانه لبعضهما، لم يعد هناك من شكوى أو بَوْحٍ أو عتاب. انقطع حبل الكلام، وانقطاعه هو شأنه من شأن زجاجٍ قد تحطّم أو نبعٍ قد غار أو عزيزٍ قد غادرنا. أَعود إليكِ في القريب العاجل، يا عزيزتي، أَعود إلى أَحضان صوتِك، إلى ترنيمة سُخْطِك على المساوئ والقبائح، إلى أُنشودة ضحكتِك الهازجة المتموّجة. الفراق صعب، واللقاء أكثر من جميل. إنّه قِران الأَشواق، وعبور من العدم إلى الوجود، وانتصار للحياة، الحياة كما نَنْشدها: نَرْجِسٌ وياسمين، عسل وطيّبات، علم ووعي وعمل وكدّ وبناء. الحياة التي نليق بها وتليق بنا. فالحياة يستحقّها الكادحون المناضلون الصابرون الشرفاء الأَوفياء.

(صِنّين / 16 ـ 24 آب 2014)

أَحمد عُلَبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى