يمنى العيد - الثقافة تمرّد أم مهادنة..

يحيلني العنوان، “الثقافة تمرّد أم مهادنة”، على ما يجري في زمننا الحاضر في أكثر من بلدٍ عربي، وقد برز المشهد، مشهد جموع المواطنين، شباب في معظمهم، يعلنون تمرَّدهم، أي رفضهم لما ساد واقعهم، لحياةٍ عاشوها، وربّما لثقافةٍ وسمتْ ذاك الواقع، أو كانت نتاجَ ذاك الواقع، وفشلت في تغييره. وأتساءل: هل يمكن أن يكون لهذا التمرّد، الذي يمارسه أكثرُ من شعبٍ عربيّ فوق أرضه، ثقافة؟ أوهل “الثقافةُ تمرُّد”؟ أي هل هي موقفٌ يقابله موقفٌ آخر هو “مهادنة” كما يوحي عنوان هذا النشاط الثّقافي الذي نحن بصدده؟ وهل الثقافة هي هذا أو ذاك، أي تمرّد أم مهادنة؟ ألا يمكن أن تكون، وفي الان نفسه، تمرّداً في وجه منها ومهادنةً في وجهٍ آخرَ لها؟ أو، ألا يمكن أنْ يكون للثّقافة عناوين أخرى؟ وعليه:

ما هي الثّقافة؟

أشير، بهذا الصّدد، إلى ما نسمّيه، أو نعتبره، ثقافةً نهضويّة، وثقافة وطنيّة، وثقافة تقدميّة… وهي عناوين لثقافاتٍ ارتبطت بزمنٍ في تاريخنا العربيّ الحديث وبأهداف، وبأسماء لعلماء ومفكرين وأدباء عملوا على تحقيق هذه الأهداف. أذكر على سبيل المثال: رفاعة رافع الطّهْطاوي، قاسم أمين.. وقد عنتْ الثّقافةُ وقتها، النهوضَ بالممجتع والإنتقال به من زمن التخلّف إلى زمن التقدّم، وذلك عن طريق التعليم، وخاصّة تعليم النساء لما للمرأة من دورٍ في تقدّم المجتمع. كما أذكر محمد عبده كعنوانٍ لثقافة الإجتهاد والإفادة من التراث وترهينه. كما أشير إلى المعلم بطرس البستاني الذي عنت الثقافة له ولأمثاله إعادة الإعتبار إلى اللّغة العربيّة. بينما طرح طه حسين ومعه عبد العظيم أنيس عنوانا يربط بين الثقافة ومستقبل مصر. أو بين ثقافة وطنيّة منفتحة على ثقافة الغرب، وبين ما سيكون عليه مستقبل الوطن.

لقد أدّى إنفتاحُ ثقافتنا النهضويّة على ثقافة الغرب إلى ثقافةٍ حداثيّة وسمت، بشكلٍ خاصّ، نتاجاتنا الأدبيّة والفنيّة، كما حضارتنا وتفكيرنا وسلوكاتنا وأنماط عيشنا.. وأدّت في وجهٍ منها إلى ما يمكن تسميته بثقافة المجاوَرَة التي نتبيّنُها، بشكلٍ ظاهر، في ما آلت إليه العمارةُ في مدننا وأحيائنا. كما نتبيّنها في أثاث بيوتنا وفي أزياء لباسنا، كما في سلوكاتنا وحتى في طرق تفكيرنا، وفي بعض نتاجاتنا الفكريّة والأدبيّة… ولقد كانت هذه الثقافة، بصفتها الحداثيّة، موضع نقاش وخلاف حادّ وقتها.

هكذا يبدو لي أنَّ هذه الثّقافة المطروح علينا تناولها، والموضوعة في سؤالٍ هو خيارٌ بيْن تعريفيْن أو معنييْن لها: تمرّد أم مهادنة، هي ثقافةٌ أخرى، مختلفة عن ثقافةٍ سابقة وإن كانت قادمةً منها، تحملها، أو تُضمرها. هي غير ثقافة المقروء أو ثقافة الكتاب، أو ثقافة الفئات المثّقفة. إنها ثقافة موقف وتحيل، بشكل أساسيّ، على الراهن، أو على ما يجري في أكثر من بلد عربي. وهي وبما تحيل عليه، ثقافةُ النّبض الحي، ثقافة الشّفوي والتواصل الإجتماعي، ولغة المنطوق الحيّ غير المكترث بقواعد ثقافة المكتوب. إنها ثقافة جموعٍ نزلتْ إلى الشّوارع والميادين، شباب ينتج ثقافته ويجعل منها لا مجرّد عنوان أو موقف، بل معنىً لحراكه التغييري.

وعليه، أرى أنَّ تحديد مفهوم الثقافة يبدأ من الهدف الذي يخصّنا كبشر نعيش على هذه الكرة الأرضيّة، وكوننا، في الآن نفسه، شعوباً لها خصائصُها ومشاكلها الإجتماعيّة، ونصبو إلى أن نكون أكثر تمتّعاً بهذه الحياة وأكثرَ إنسانيّة في علاقتنا ببعضنا البعض.

ليس للثّقافة هدفٌ واحد، ولا يمكن وضعُها بين خياريْن: تمرّد أم مهادنة. هي ذلك وأكثر. الثقافة ثقافات، وهي، بصفتها هذه، متغيّرة من متغيّرات التاريخ والمجتمعات، وإن كان من الممكن الكلام على ثوابت ثقافيّة جوهريّة تخصُّ القيم الإنسانيّة الكبرى. قيم الحريّة والعدالة وحق الإنسان في عيشٍ كريم.

وقد تكون الثقافة في معنى من معانيها، أو في فترة من تاريخها، تمرّداً، أو حالةً شعبيّة تعترض التاريخ، تخرج عليه لتواجه السيّاسة من أجل سياسة أخرى، وقد تتخذ، لدى فئة من فئات المجتمع، طابع المهادنة، لكن يبقى أن هذه الثّقافة ليست، وفي مختلف حالاتها التاريخيّة، مجرّد موقف، أو معادلاً لموقف، بل هي، وفي معناها الإنساني العام، نشاط متنوِّع يستهدف تكوين وعيٍ جمعيٍّ يناهض الظلم والقمع والإستبداد. نشاط يُمارَسُ على مستوى الفرد والجماعة ويبحث عن سبل لتحقيق أهدافه، أو عن ميادين لممارسة هذاالنشاط، ميادين تخصّ الإنتاج الأدبيّ والفكريَّ، والتربية، ونظمَ المؤسّسات والدّول والقوانين التي تنتظم بها العلاقاتُ الإجتماعيّة بين فئات المجتمع كما بين أفراده، أو بين المجتمعات والشّعوب على اختلاف هويّاتها وانتماءاتها العرقيّة والدينيّة.

والثقافة هذه، هي وعيٌ ومعرفةٌ وتاريخ. وهي، في الآن نفسه، موقفٌ لا من الواقع والمجتمع وحسب، بل أيضاً من الحياة والموت، من الغيب، من الزمن، من الماوراء، من المرئي وغير المرئي…

تزيدنا المعرفة شعوراً بقوتنا وإيماناً بفعلنا. وكلما ازددنا معرفة ازددنا قدرة على الحوار، على البناء والتقدم. وأن نتثقف يعني أن نصبح أكثر قدرة على الإحتجاج. إحتجاج ضد عدم كفاية الحياة، ضد من يجعل الأرض حصصاً للإختلاف والإقتتال.

تغتني الثقافة بالحوار، الحوار على قاعدة المختلف، المتنوّع. وليس على قاعدة الواحديّ المتماثل بذاته، أو المتوحّد بهذه الذات، وإلا ركدتْ الثّقافة واستقرَّتْ في ركودها الآيل بها إلى موتها. تموت الثقافة حين تتأبَّدُ بالواحديّ، أو تتماهى به. إذ ذاك نقبع، أو يقبع من يتبنى مثل هذه الثقافة، خارج التاريخ. ذلك أن التاريخ حراكٌ مستمرٌّ، وقوام حراكه التناقضُ. التناقض لا التناحري، بل النّشط القائم على التأمُّلِ والحوار والتساؤل. التناقض الذي هو، أساسا، تناقضٌ بيْن عناصر الوجود والطبيعة، كما بين مكوّنات الواقع الإجتماعي. تفقد الثّقافة قدرتها على الحياة، تأسن، تتعفّن، حين تتماثل بذاتها.

الثقافة هي ما يشحذ الحساسيّة، ويوقظ الحوارُ الروحَ النقديّة التي “تشكِّل محرِّكَ التقدّم”، والتي ـ أي هذه الروح النقدية ـ لا غنى عنها في كلِّ ثقافة، وذلك كي تستمرّ الحضارة بصفتها الأنسانيّة في الوجود، وكي نتجدّد “محتفظين بأفضل الأمور الإنسانيّة… كي تكون لنا القدرة على الخروج من أنفسنا، كي نصبح آخر وآخرين معجونين بطين أحلامنا”، وكي لا نعود إلى بربريّة التخاطب ونغرق في الإقتتال المدمّر.

ثمة فروقات ثقافية بين الناس هي دعائم للتلاقي في ما هو إنساني عام. وهي، أي هذه الفروقات، سبيل الإنسان كي تكون الحياة أفضل مما هي عليه. الثقافة هي محاولة الممكن والإنفتاح على الغيري، واستهداف الحرية. ونحن في هذه المحاولة بحاجة إلى القوة. القوة التي هي حليف المعرفة، المعرفة بما هي لسان القوة الصحيح. المعرفة القائمة على طموح إلى الثقافة العالية، إلى الحرية، إلى العدالة.

وباختصار يمكن القول بأن الثقافة بمعانيها هذه، وبثرائها الممكن، مفهوم متغير على قاعدة من الثوابت تخصّ الإنسان في إنسانيّته، و تجعلنا، بمعانيها هذه، نسعى كي تكون الحياة أفضل. كما تجعلنا ندرك أنَّ من حقنا أن نعيش كما نحبُّ ونرغب. فنحن لا نملك سوى حياة واحدة، ومن حقِّنا أنْ نعيشها بحريّة وعدالة، وبما يسمحُ لنا تحقيقَ أحلامنا.

لقد كانت لنا، نحن الشعوب العربية، أحلامنا منذ بدايات النهضة. ولقد حملت ثقافتنا النهضوية هذه الأحلام، وناضل كثير من مثقفينا من أجل بناء مجتمع تتحقق فيه الديمقراطية، وتُحترم فيه الحريات، ويتمتع فيه المواطن بحقوقه كإنسان.. ولكن ها نحن اليوم، وبعد كل هذه العقود، وبعد مئة عام على ما سمي عصر النهضة العربية، نجد أن الأمية تشكّل حالة شبه عامة، ونصل إلى ثقافة يسودها الإرهاب الذي يُمارس باسم الإسلام، أو “باسم حمايته”. ولعلنا نتساءل:

ماذا قدمت لنا تلك الثقافة؟ وهل كانت ثقافتنا ثقافة مهادنة، أي ثقافة عاجزة عن التغيير؟

وهل هي، أي تلك الثقافة، ما يفسر التمرّد الذي نشهده اليوم في أكثر من بلد عربي؟

سؤال أطرحه وأحيل الجواب عليه إلى ما قدّمت من أفكار بهدف مناقشتها، ربما أمكننا استخلاص بعض الأجوبة أو التوافق على مفهوم لثقافة نحن بحاجة إلى تبنّيها والعمل بهديها كي تساعدنا على الخروج من أطرنا الضيقة، من سجوننا العقائدية.. وكي تكون سبيلنا للخلاص من مأزقنا الحضاري بل الوجودي الذي تزهق فيه أرواحنا ويتعمّد بدمائنا.

يمنى العيد


الثقافة تمرّد أم مهادنة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى