أدب السجون صلاح عيسى - خرافة فرج الله الحلو..

أمضيت ربع قرن أبحث عن «سامي جمعة» لكي أتم كتاباً بدأت تأليفه في عام 1976 بعنوان «خرافة فرج الله الحلو». و كنت أظنه قد مات، وأن الكتاب الذي ظللت طوال تلك السنوات، أضيف إليه ـ بين الحين والآخر ـ صفحات، وأحذف منه صفحات، قد مات معه، أو أنه سيموت معي..! فجأة اكتشفت أن «سامي جمعة» لا يزال على قيد الحياة، وأنه أصدر في دمشق، قبل أسابيع، مذكراته. ولأن كثيرين من المهتمين بالأمر في العاصمة السورية، كانوا يعرفون أنني أبحث عن أبطال ووثائق جريمة اغتيال «فرج الله الحلو»، فقد وصلني الكتاب هذا الأسبوع، وعبر صفحاته التي أمضيت معها ليلة كابوسية أخرى ككل الليالي التي أمضيتها وأنا أؤلف ذلك الكتاب، أتيح لي أن أتعرف لأول مرة على الرجل الذي ظللت أنتظره كل تلك السنوات، وأن أتطلع الى صورته التي نشرها على ظهر الغلاف، وهي صورة تعود الى عهد شبابه، ولا تشي ملامحها بقسوة أو شر، ولابد ان هذه الملامح، قد أصبحت اليوم، وقد تجاوز الرجل الثانية والسبعين، أكثر وداعة وطيبة، ولا يمكن أن يصدق من يراه، أو يتحدث اليه، أنه فعل شيئاً، مما نسب اليه، وما كتب هو نفسه بعضه. وكان «فرج الله الحلو» سكرتيراً عاما للحزب الشيوعي السوري اللبناني، حين تمت الوحدة المصرية السورية في فبراير 1958، فانفصل الحزبان ليصبح «الحلو» سكرتيراً للحزب اللبناني، الذي ظل علنياً، بينما اضطر الحزب السوري للعودة الى العمل السري، بعد أن تقرر حل جميع الأحزاب السورية في أعقاب الوحدة، تمهيداً لإنشاء تنظيم سياسي واحد، هو الاتحاد القومي. وبعد أقل من عامين على اتمام الوحدة، تدهورت بإيقاع سريع، العلاقات بين عبدالناصر والشيوعيين العرب، بسبب اعتراضهم على صيغة الوحدة الاندماجية، وتفضيلهم لاتحاد فيدرالي يقتصر على توحيد القوات المسلحة والسياسة الخارجية، على أن يكون لكل جمهورية حكومتها المحلية وبرلمانها الإقليمي، وبذلك تحتفظ سوريا بما كانت تتمتع به ـ قبل الوحدة ـ من حريات ديمقراطية، وتعددية حزبية. ولأن الحزبين الشيوعيين في سوريا ولبنان، كانا في كثير من الأحيان حزباً واحداً، وبسبب سفر «خالد بكواش» سكرتير عام الحزب السوري ـ الى الاتحاد السوفييتي، فقد تحمل «فرج الله الحلو» عبء اعادة تنظيم الحزب في سوريا، وكان يتسلل الى دمشق، لكي يلتقي بقياداته، وينظم نشاطه، وكان ذلك هدفه، حين تسلل ليلة 25 يونيو 1959، عبر الحدود السورية اللبنانية، ببطاقة مزورة، تحمل اسم «عسّاف منصور»، لتنقطع ـ منذ ذلك الحين ـ أخباره. بعد أسابيع من غيابه، بدأت الصحف اللبنانية تتحدث عن اختفائه، وتلح على الحكومة اللبنانية لكي تسأل رسمياً عن مصيره، وأن تمكّن أسرته من زيارته اذا كان معتقلا في أحد السجون السورية، وهو ما فعلته وزارة الخارجية اللبنانية فتلقت من «عبدالحميد السراج» ـ وزير داخلية الاقليم السوري ـ خطاباً رسمياً يؤكد فيه، ان مخافر الحدود لم تسجل دخول أي شخص باسم «فرج الله الحلو» أو «عسّاف منصور»، وأن الأول ممنوع من دخول سوريا لأسباب تتعلق بالأمن العام. ولأن أسرة «فرج الله الحلو» كانوا متأكدين من أنه دخل سوريا بالفعل، فقد واصلوا حملتهم للمطالبة بالافراج عنه، وشكلوا لجنة دولية تسعى لإطلاق سراحه، تضم شخصيات عامة لامعة، من ايطاليا الى الهند ومن فرنسا الى البرازيل ومن لبنان الى السويد، وسافرت اللجنة الى دمشق، وطلبت لقاء المشير عبدالحكيم عامر، نائب رئيس الجمهورية، لكنه اعتذر، وأحالها الى عبدالحميد السراج، ليكرر لها نفيه أن يكون بالمعتقلات السورية شخص يحمل أحد الاسمين، وتأكيده بأن مثل هذا الشخص لم يعبر الحدود في أي أي وقت من الأوقات. وخلال العامين التاليين ظل اسم «فرج الله الحلو» يتردد على صفحات الصحف اللبنانية والعالمية، وظلت الحملة للمطالبة بالافراج عنه تتواصل الى أن وصلت الى ذروتها في 28 مايو 1960، حين نشرت الصحف اللبنانية خبراً يؤكد أن «فرج الله الحلو» قد قتل تحت التعذيب في أحد السجون السورية بعد ساعات من تسلله الى دمشق، وأنه دفن في مكان مجهول. وانقلبت الدنيا. تدفقت برقيات الأحزاب الشيوعية العالمية على أرملة «فرج الله الحلو» وعلى الحزب الشيوعي اللبناني، تنعي الرجل الذي كان صاحب تاريخ وطني طويل في الدفاع عن استقلال سوريا ولبنان، وعن قضايا الطبقات الكادحة، فضلاً عن أنه كان يتميز عن غيره من قادة الحركة الشيوعية بوضوح أفكاره الوحدوية، وتندد بالحكم البوليسي الذي حول حلم الوحدة العربية الى كابوس مخيف! أما وقد تصاعدت الحملة ، لتشمل صحف وإذاعات دول المنظومة الاشتراكية، فضلاً عن صحف الاحزاب الشيوعية الأوروبية فقد كان لابد وأن تنهض الصحف والاذاعات المصرية لترد لها الصاع صاعين، فتندد بالحملة المشبوهة التي يحركها الشيوعيون العملاء للتشهير بالجمهورية العربية المتحدة، بإعادة ترديد «خرافة مقتل فرج الله الحلو»، التي لم تكف عن ترديدها خلال العامين السابقين، على الرغم من التأكيدات المتواصلة، بأنها قصة ملفقة من الألف الى الياء! وبعد أسابيع قليلة، تفككت دولة الوحدة، وانسحبت معها سوريا، وشن الانفصاليون الذين حكموها حملة دعائية شرسة، ضد العهد الوحدوي البائد، وفي خلال ذلك تردد اسم «فرج الله الحلو»، وأعلن الانفصاليون انه دخل بالفعل الى سوريا، وقتل تحت التعذيب، وأحيل ملف القضية الى هيئة تحقيق شكلت آنذاك لبحث جرائم عهد الوحدة. وجرت في النهر مياه كثيرة: تعددت محاولات الانقلابات والانقلابات المضادة في سوريا، الى ان استقر الحكم فيها لحزب البعث، ووقعت هزيمة 1967، ثم حرب 1973، واستقرت «خرافة فرج الله الحلو» في مكان ما من الذاكرة. بعد سبعة عشر عاماً وفي عام 1976، كنت في دمشق، حين طلب عدد من الشبان السوريين لقائي.. وبعد مقدمة قصيرة أخجلوا بها تواضعي، قالوا لي ان لديهم وثيقة تاريخية يهمهم كثيراً أن أقرأها، ويهمهم أكثر أن اسعى لنشرها بأسرع مما يمكن، لتكون جرس انذار يحول دون تكرار ما بها من وقائع.. ثم انصرفوا من دون ان أعرف اسم واحد منهم.. وبنظرة واحدة على غلاف الملف الذي تركوه لي، أدركت انني أمام ملف التحقيق في «خرافة فرج الله الحلو». في تلك الليلة الكابوسية التي أمضيت ساعاتها الأولى، أقرأ تفاصيل ما جرى، وقطعت بقيتها أذرع غرفتي بالفندق مسهداً من الغضب والحزن والخوف، أدركت ان مقتل «فرج الله الحلو» كان بالفعل خرافة، ليس لأنها لم تحدث، ولكن لأن حدوثها بالشكل الذي وقعت به، أمر لا يمكن تصديقه مهما اشتط الخيال بالانسان! ففي منتصف يونيو 1959، وقع احد الشيوعيين الهاربين في قبضة اجهزة الأمن، وبعد ساعات من التعذيب اعترف بأن «فرج الله الحلو» سوف يتسلل الى دمشق، بعد أيام لكي يلتقي به، في دار ذكر عنوانها. وهكذا ما كاد «فرج الله الحلو» يصل الى المكان في الساعة السابعة من مساء يوم 25 يونيو 1959، حتى وجد في انتظاره كميناً من رجال الشرطة، قادوه الى احد المراكز التي كانت مخصصة للتحقيق مع المعتقلين واستنطاقهم.. وبعد حوار قصير في السياسة، بدأ الحوار بالعصي والكرابيج والسحل على البلاط وتمرير تيار كهربائي في الاطراف، وحين يتعب الجلادون من الضرب، كانوا يوثقونه بالحبال الى مقعد، ويعلقون فوق رأسه اناء به ماء يتساقط نقطة بعد أخرى، وهو أسلوب نازي معروف في التعذيب، يمكن أن يقود من يتعرض له لفترات طويلة الى الجنون! وكانوا عند تفتيشه، قد وجدوا معه حلقة تضم عدداً من المفاتيح، استنتجوا انها لبيوت تضم اوكارا للحزب، وكان المطلوب منه، هو ان يذكر عناوين تلك البيوت، ليتربصوا فيها بمن يتردد عليها من اعضاء الحزب، لكن «فرج الله الحلو» اصر على ألا يفتح فمه بكلمة، حتى عندما انتقل التعذيب الى الدرجة الثالثة، فبدأوا ينفخونه بمنفاخ اطار السيارات الى ان ترتفع بطنه فيضغطون عليها لتفريغ الهواء... ويكررون ذلك. ورطة «النضال» كان «فرج الله الحلو» أيامها في الثالثة والخمسين من عمره، وكان مريضاً بالقلب، وهو ما تنبه له الرائد «سامي جمعة» عندما عثر على دواء منشط للقلب في جيب قميصه وهو يفتشه، فلفت نظر زميله «الرائد عبدالوهاب الخطيب» ـ الذي كان يقوم بتعذيبه ـ الى ذلك، فلم يهتم بالأمر، وطلب اليه ان يوصل فيشة الكهرباء بالتيار، وواصل عمله، بينما واصل «فرج الله الحلو» اصراره على ألا يقول شيئاً. بعد الفجر بقليل، كان «عبدالوهاب الخطيب» قد تعب من التعذيب، وكان «فرج الله الحلو» لا يزال يرفض الحكي.. ووصل الرقيب «وجيه انطاكلي» ـ الذي كان قد شارك في عملية التعذيب في بدايتها ـ ليتسلم نوبة عمله الصباحية، وسأل رئيسه: حكى؟! فقال الخطيب: لسه ما حكى.. وانصرف الى منزله ليستريح قليلاً من عناء النضال من أجل الوحدة العربية، وأمر «وجيه الانطاكلي» بأن ينوب عنه في هذا النضال وألا يترك «فرج الله الحلو» أو يرفع عنه عصاه، قبل أن يحكي! وكان فرج الله آنذاك مربوطاً بالحبال الى مقعده، ونقاط الماء تتساقط من الاناء نقطة بعد أخرى فوق رأسه، وكان شبه مغمى عليه، لكن وجيه انطاكلي لم يرحمه، فواصل ضربه بالسياط، حتى تقطعت انفاسه، فتركه ودخل يتفقد بقية المساجين، وفي تلك اللحظة، مر أحد زملائه من السجانة بالمكان الذي كان يجري فيه التعذيب، فوجده يلهث بشدة ثم شهق شهقة واحدة، وارتخى رأسه على صدره، فتقدم نحوه، ووضع أذنه على قلبه وصاح: وجيه، الزلمه مات! ومع أن وجيه انطاكلي، ادرك للوهلة الأولى ان الزلمه قد مات بالفعل، إلا انه صاح في زميله: هذا تمثيل ما يجوز عليّ. ثم طلب اليه ان يحمله معه ودخل به الى غرفة «سامي جمعة» ـ قائد المعتقل ـ وصرفه، وأغلق بابها الداخلي الذي يقود الى داخل المعتقل خلفه.. وأخذ يضرب بعصاه على المكتب وهو يصيح: احكي يا أبوفيا .. ليوحي لبقية زملائه بأن «فرج الله» لايزال حياً، ثم أجرى اتصالاً تليفونياً، توافد على اثره عدد من كبار ضباط الأمن الى المعتقل ودخلوه من باب خاص كان يفتح على الشارع مباشرة. وصدرت الاوامر بعدم السماح لسجانة النهار بالدخول، فكان «وجيه انطاكلي» يفتح لهم الباب، ويكلف كل منهم بمهمة خارج المبنى، بينما تعاون من تبقى من سجانة الليل في حمل الجثة حيث اودعوها في احدى الغرف، ووضعوا فوقها ألواحاً من الثلج، ثم انتقل الكبار الى المقر الرئيسي للأمن السياسي، ليواصلوا البحث عن مخرج من الورطة. واستبعد الجميع اقتراحاً بتحرير محضر مزور بهروبه من السجن، ثم اصدار قرار بالبحث عنه، باعتباره لعبة مكشوفة، واستبعدوا ـ كذلك ـ كل تفكير في ابلاغ النيابة العامة بأنه مات ميتة طبيعية بسكتة قلبية، لأن ذلك يتضمن مخاطرة توقيع الكشف الطبي على الجثة، وإذا أمكن لملمة الموضوع في سوريا، فإن أسرة القتيل سوف تتسلم جثته وتكتشف فيها آثار التعذيب.. وآنذاك نشأت فكرة التخلص من الجثة، بإلقائها في البحر، أو اخفائها في أحد مغرات الجبل، وتفجيرها بالديناميت..! وعندما عرضوا كل هذه الاقتراحات على وزير الداخلية «عبدالحميد السراج» انفعل وثار، وصاح فيهم: ـ كيف بتصير ها القصة يا أخي.. أنا شو بدي ساوي أمام الرأي العام؟ وكيف بدي أبرر للناس سلامة الوضع بالجمهورية.. وينجي بهذا العمل بنعطي ممسك للشيوعيين وغيرهم بهذا العمل، بنعطي ممسك للشيوعيين وغيرهم بها الجريمة.. ومن غير شيء، فالشيوعيون والمتآمرون يتغنوا بصحفهم وإذاعاتهم بفقد الحريات واضطهاد المواطنين والتعذيب وما شاكل ذلك.. (أي ادفنوه). وبذلك بدأ الفصل الثاني من «خرافة فرج الله الحلو»!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى