محمد مصطفى - في التصوير الإسلامي.. ليلى والمجنون - 4 -

جعل الملوح بن مزاحم يبحث طويلاً بين الحجاج عن ابنه (قيس)، إلى أن ساق القدر إليه حادياً قادماً من ناحية نجد مع قافلة من الحجاج، فأخبره الحادي أنه رأى في طريقه شاباً ناحلاً أشعث الشعر ممزق الملابس يضرب في البادية على غير هدى، ولما اقترب منه وناداه فر هارباً واختفى في دغل قريب راح يراقب من خلال أشواكه الحادي وما عسى أن يصنع وعرف الحادي المجنون وأراد أن يجتذبه إليه كي يستنشده بعض أشعاره فرفع صوته يغني أنشودة للمجنون يقول فيها:

منى النفسِ ليلى قرّبي فاك من فمي ... كما لفَّ منقاْريهما غَرِدان
نَذُق قُبلةً لا يعرف البؤس بعدها ... ولا السُّقْمَ رٌوحانا ولا الجسدان
فكل نعيم في الحياة وغبطة ... على شفتينا حين تلتقيان
ويخفُقُ صدرانا خفوقاً كأنما ... مع القلب قلب في الجوانح ثان

واطمأن المجنون إلى الحادي حين سمعه يتغنى بذكر ليلى، فثاب إليه رشده، وأقبل من خلف الدغل نحو القافلة يسأل الحجاج:

أحجاج بيت الله في أي هودج ... وفي أي خدر من خدوركم قلبي
أأبقى أسير الحب في أرض غربة ... وحاديكم يحد وبقلبي في الركب

ولما رآه الحادي مال إليه فجلس إلى جانبه يحدثه في ليلى ويقص عليه ما سمعه من أخبارها، والمجنون ينصت في شغف وشوق، وقد هاج هذا الحديث في نفسه ذكريات الصبا، فصار يقاطعه بين حين وآخر لينشد ما يخطر له من أناشيد حب قالها في حبيبته ليلى. إلى أن أقسم عليه الحادي أن ينشده أحسن ما قاله في وصف المحاجر والأطراف والبشرة والجلد. فقال:

ليالي أصبو بالعشي وبالضحى ... إلى خُرَّد ليست بسودولاً ع منعمة الأطراف هيفٌ بطونُها ... كواعب تمشي مشية الخيل في الوحل
وأعناقها أعناق غزلان رملة ... وأعينها من أعين البقر النجل
وأثلاثها السفلى بَرادِيَّ ساحل ... وأثلاثها الوسطى كثيب من الرمل
وأثلاثها العليا كأن فروعها ... عنا قيد تُغذَّى بالدهان وبالغَسل
وتَرمي فتصطاد القلوب عيونها ... وأطرافها ما تحسن الرمي بالنبل
زرعن الهوى في القلب ثم سقينه ... صبابات ماء الشوق بالأعين النجل
رعابيبُ أَقصدن القلوب وإنما ... هي النبل ريشت بالفتور وبالكحل
ففيم دماء العاشقين مُطَلَّةٌ ... بلا قوَد عند الحسان ولا عقل
ويقتلن أبناء الصبابة عنوة ... أما في الهوى يا رب من حَكم عدل

وما انتهى المجنون من أنشودته هذه حتى لمح غزالاً يقفز متحيراً في الأفق البعيد فهب واقفاً وهو يقول:

ألا يا شبه ليلى لا تراعي ... ولا تنسل عن وِرْدَ التلاع
لقد أشتهتها إلا خلالا ... نشوز القرن أو خمش الكراع

ثم جعل يعدو خلف الغزال حتى كاد يلحق به واختفى معه عن أعين الحادي وقافلة الحجاج

خرج زياد بن مزاحم يبحث عن ابن عمه (قيس)، فوجده جالساً على ربوة قريبة، يخطط بإصبعه في التراب، ويحدق أمامه نحو مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ولما عرفه المجنون ناداه فجلس إلى جانبه يحدثه عن أهل الحي وأخبارهم، وعن رجوع والده من مكة - بعد سماع قصة الحادي - حزيناً مكتئباً، وبقى زياد عنده يستنشده الشعر ويدون ما يسمعه منه. ودلسا ذات صباح يتحدثان فظهر، لهما شبح امرأة قادمة نحوهما، ثم أخذت تقترب منهما شيئاً فشيئاً حتى تبيناها، فإذا بها (بلهاء) جارية المجنون وكانت تحمل بين يديها قصعة بها طعام، وقام إليها المجنون يعانقها ويقبل بيديها، وتناول منها القصعة وهو يقول:

أرى صنع أمي يا زياد، فديتها ... بروحي وإن حَّملتها الهم والَبْرحا

ثم نزع عن القصعة غطاءها فوجد بها ذبيحة مشوية، فعجب لذلك والتفت إلى زياد مستفهماً، إذ لم يكن في الوقت ما يدعو إلى ذلك. وسئل زياد البلهاء أن تحدثهما بخبر هذه الذبيحة ولا تكتم عنهما شيئاً من حقيقة أمرها فقالت:

لقد مرّ عرَّاف اليمامةِ باِلَحِمى ... فما راعنا إلا زيارته صبحا
طوى الحي حتى جاء عن قيس سائلاً ... وأظهر ما شاء المودَّةَ والنصحا
ولاحت له شاةٌ جثوم بموضع ... تخيلها ظلاً من الليل أو جنحا
فقال اذبحوا هاتيك فالخير عندها ... فقام إليها يافع يحسن الذبحا
فقال انزعوا من جثة الشاة قلبها ... فلم نألُ قلب الشاة نزعاً ولا طرحا
فلما شويناها رَقَى بعزائم ... عليها وألقى في جوانبها الملحا
وقال اطلبوا قيساً فهذا دواؤه ... كأني به لما تناوله صَحَّا

وحث زياد قيساً على أن يأكل من الشاة متوسلاً إليه بقوله:

تعلل قيس بالشاة ... عساها تذهب الحبا
فما العراف بالمجهو ... ل لا علماً ولا طبَّا
طبيب جرَّب اليابس ... في الصحراء والرَّطبا
وتلك الأمُّ يا قيس ... أطعْها تطع الربَا

وأراد قيس أن يجامل زياداُ ويتذوق شيئاً من الشاة فقال:

زياد اسمع وكن عوني ... وخل اللوم والعتبا
إذا ما لم يكن بُد ... فإني آكل القلبا

ومرت بلهاء بذلك ومدت يدها إلى صدر الشاة تبحث فيه عن القلب. . . ولكنها تفقدته فلم تجده، فاضطربت وجعلت تخاطب نفسها:

القلب! أين القلب؟ أين يا ترى وضعته؟
يا ويح لي! نسيتُ أني ... بيدي نزعته!

وكان في ذلك فصل الخطاب، فرفض قيس الطعام والدواء وهو يبكي أحر البكاء ويقول:

وشاة بلا قلب يداوونني بها ... وكيف يداوي القلب من لا له قلب

ورجعت بلهاء إلى الحي تجر أذيال خيبتها، وروت لقومها ما حدث؛ فاجتمعوا في بيت الملوح يتشاورون في أمر المجنون. ومر بهم بعض الأطباء فسأله الملوح عما يعالج؛ فقال أعالج كل مسحور مجنون، قال: مكانك آتيك بابن لي يهيم في الصحراء؛ فخرجوا في طلبه. فما زالوا يطلبونه حتى أحضروه وأدخلوه إلى المعالج، وأقبل بسقيه؛ فلما أكثر عليه المعالجة أنشأ يقول:

ألا يا طبيب الجن ويحك داوني ... فإن طبيب الأنس أعياه دائيا
أتيت طبيب الأنس شيخاً مدويا ... بمكة يعطي في الدواء الأمانيا
فقلت له يا عم حكمك فاحتكم ... إذا ما كشفت اليوم يا عم ما بيا
فخاض شراباُ بارداً في زجاجة ... وطرَّح فيه سلوة وسقانيا
فقلت ومرضى الناس يسعون حوله ... أعوذ برب الناس منك مداويا
فقال شفاء الحب أن تلصق الحشا ... بأحشاء من تهوى إذا كنت خاليا

ثم جعل بعض شفتيه ولسانه حتى خلاه أهله. فنهض المجنون ومضى إلى ربوات جبل التوباد يسعى وراء الذكريات والسلوة

وفي (شكل 1) ترى المجنون وقد ارتمى على الأرض يقبل قدمي البلهاء التي تحاول أن تمنعه من ذلك. وهذه الصورة من مخطوط كتب في مدينة هرات حوالي سنة 1450م.

(يتبع)

محمد مصطفى


مجلة الرسالة - العدد 553
بتاريخ: 07 - 02 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى