فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. بيئات الأدباء في الأدبين العربي والإنجليزي

أثر البيئة في الإنسان ومجتمعه وعلومه وفنونه من النواميس التي اهتم العلم الحديث بكشفها وتتبع مظاهرها والرجوع إليها في شتى الدراسات. وأثر البيئة في أدب كل أمة على إطلاقه واضح مشاهد؛ بيد أن لكل أديب بيئة خاصة داخل البيئة العامة التي تحيط به وبغيره من أدباء أمته، ولهذه البيئة الخاصة أثر بعيد في تكييف عبقريته وتوجيه ميوله وصبغ نظرته إلى الحياة وتكوين فهمه للأدب، ولهذه البيئة في أكثر الأحايين فضل توجيه عبقريته إلى الأدب دون غيره من الفنون والحرف الإنسانية.

فالوراثة لها أثر في فن الأديب، لاشتراكها في تكوين مزاجه وميوله، وذلك الأثر الوراثي ملحوظ في أدب شلي وبيرون من شعراء الإنجليز، بل في حياتهما إذ عاش كل منهما ساخطاً قلق المقام مضطرباً بين البلدان مساجلاً المجتمع حرباً لا تهدأ، وقد كان كلاهما منحدراً من أسرة أرستقراطية عرفت صفات الجماح والتمرد في غير واحد من أسلافها. وللوراثة أثرها الواضح في أدب أبن الرومي الذي جاء لانتمائه إلى الروم مخالفاً أدب غيره من فحول العربية، في النظرة إلى الحياة والطبيعة، وفي استقصاء المعاني وتوليدها.

ولتكوين جسم الأديب، بين الصحة والمرض والكمال والنقص والوسامة والدمامة أثره كذلك في أدبه، فالأديب السليم الجسم يكون صافي المزاج معتدل النظرة إلى الحياة، والأخر المعتل الصحة المنهوك بالأوصاب، كالمعري وأبن الرومي في العربية، وبوب وسويفت وجراي في الإنجليزية، يكون ضيق العطن أوقاتهم النظرة إلى الحياة أو كثير النقمة على معاصريه شديد الشغب معهم. وقد قيل قديماً إن للأدب ضريبة على محترفه يتقاضاه إياها من ذات جسمه أو ذات نفسه، فلا تكاد ترى أديباً إلا محروباً أو شقياً أو معسراً، ولعل فقدان الأديب لبعض ما يتمتع به سواه من بهجة الحياة من دواعي إرهاف حسه وصرفه إلى التأمل وعطفه إلى الأدب، ولعل المعري لولا عماه وانحباسه عن متعات الدنيا على ذلك الوجه، لما حفل بالتفكير في الأرض والسماء وأصل الخلق ومصير الإنسان وهلم جرا.

وللتربية والنشأة المنزلية أثرهما في تكوين الأديب، فكثيراً ما تتجه عبقرية الناشئ إلى الأدب لأن أباه أو كافله مشتغل بالأدب، وقد كان ذلك شائعاً بين العرب، إذ كان الآباء يقومون بتأديب أبنائهم، فنشأ كثير من الأدباء كالصاحب وأبن العميد وأبن المعتز وأبن زيدون في بيوت فضل وأدب. وقال ياقوت في ترجمة المعري: (وكان في آبائه وأعمامه، ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه من ولد أبيه ونسله، فضل، وقضاة وشعراء، أنا ذاكر منهم من حضرني لتعلم نسبه في العلم). ولحظ البيئة المنزلية من الرقي أو الحطة أثره كذلك في أخلاق الناشئ ومنازعه، ومن ثم يتسم أدب الشريف الرضي في العربية وتنيسون في الإنجليزية بنزعة التسامي والتدين، لانتمائهما إلى أرومة شريفة دينية، بينما تبدو لوثة العامية والتبذل في أشعار بشار وأبي نواس.

ولنصيب الأديب من الغنى أو الفقر أثر بعيد في حياته وعقليته وأدبه، فلا بد للأديب من حظ من المال يستطيع معه أن يتفرغ إلى فنه أو يتفنن في ابتكاره، أما إذا كان لا يكسب رزقه إلا بجهد جهيد فهيهات أن يوفي الأدب حقه. والأديب المعسر المخفق كابن الرومي لا ينفك شاكياً في شعره متحرقاً؛ ولا يشكو هذه الشكوى أديب نشأ في بيت نعمة كابن المعتز أو نجح في أدراك الغنى كالبحتري، فشعر هذين أكثر امتلاء بوصف اللذات وأوقات الصفاء. وقد وجد أبن الرومي على البحتري وهجاه حسداً وغيظاً، فرد عليه البحتري رداً هادئاً وأتحفه بهديه، فعل المطمئن إلى نفسه الراضي في بحبوحته، ولم يطلب الطغرائي شططاً حين قال أريد بسطة كف أستعين بها على قضاء حقوق للعلى قبلي.

ولنوع الثقافة التي يتلقاها الناشئ، والأدب الذي يقرأ، والأستاذ الذي يأخذ عنه، والأديب الذي يقدمه ويشغف بآثاره، والأدب الأجنبي الذي يدرسه، لكل ذلك أثره في توجيه أدبه وفلسفته في الحياة. فأراء المتزندقة التي فشت في صدر العصر العباسي ظاهرة الأثر في شعر بشار وحماد وأبي نواس، والآراء الفلسفية التي ذاعت بعد ذلك ظاهرة في أشعار الطائي والمعري والمتنبي؛ ولم يتأثر أدباء العربية بأدب أجنبي تأثراً ذا بال، أما أدباء الإنجليزية ففضلاً عن اغترافهم جميعاً من مناهل الأدب اليوناني، كان منهم من تأثر بالأدب الإيطالي كسبنسر، وبالألماني كشلي وسكوت وكارليل، وبالفرنسي ككثير من كتاب القرن الثامن عشر وشعراء القرن السابع عشر؛ وكما أثر مذهب أبي تمام الشعري في تلميذه البحتري وفي المتنبي وغيرهما، كان لملتون أثر بعيد في كثير من شعراء الإنجليز منهم وردزورث وتنيسون.

ولجيل الأديب، بسياسته وأدبه وأخلاقه وأزيائه وفنونه، أعظم أثر في أدبه: فبعض الأدباء ينحاز إلى حزب سياسي ويخصص جانباً من كتاباته للدفاع عنه، كما كان الكميت ودعبل وعمارة اليمني شيعيين ينتصرون لآل البيت؛ وكما كان بشار عقيلياً بالولاء ينتصر لمضر ويفخر بغضبتها إلى تهتك حجاب الشمس؛ وكما كان أبن الرومي علوياً بالولاء أيضاً. وكان أدباء الإنجليزية أكثر اتصالاً بشؤون المجتمع والسياسة وتأثراً بها، فعرضوا لمشاكل عصورهم في أشعارهم وقصصهم، وحين ملأ دكنز قصصه بوصف أحوال الطبقات العاملة، إنما كان متأثراً بأحوال عصره الصناعي، وإذا امتلأ شعر المتنبي بذكر القنا والصوارم والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك، فإنما كان ذلك صدى عصر التناحر والقلاقل الذي عاش فيه.

وتؤثر حرفة الأديب كذلك في أدبه، موضوعه ولغته وتشبيهاته: فالأديب الجندي كعنترة وأبي فراس لا يكاد يخوض في غيره حديث النجدة والعزة والبأس وإطاحة الرؤوس عن الأجسام؛ والأدباء الوزراء الذين عرفوا في الدول الإسلامية تتعلق خير كتاباتهم بالسياسة والولاية والعزل وهلم جرا؛ والشاعر المداح كالبحتري لا ينفك عن ذكر أحوال الملك ومظاهر أبهته؛ وتوماس هاردي الذي كان مهندساً معمارياً مشغوفا بفن العمارة لا يزال يبدي ويعيد في وصف العمائر والصروح في شعره وقصصه، ويستخدم في ذلك من المصطلحات العلمية ما لا يكاد يفقهه إلا خبير مثله بتلك الشؤون؛ أما الأديب المنقطع إلى الأدب فلا يكاد يخوض في غير شؤون الأدب وسير الأدباء.

وقد أورد الجاحظ هذه الحقائق مورد الفكاهة في رسالة صناعات القواد، إذ جعل الطبيب والخياط والخباز والمؤدب وصاحب الحمام وغيرهم، يتحدثون في الأدب وينظمون الشعر فيستخدم كل منهم مصطلحات حرفته في استعاراته وتشبيهاته.

وللإقليم الذي يختاره الأديب مستقراً ومقاماً، والأقاليم التي يرحل إليها في أدوار حياته، أثر عظيم في موضوعاته وأسلوبه: إذ هو يشتق أسباب القول مما يحيط به في حله وترحاله، ولا ريب أن الأديب الكثير الرحلة يكون أوسع أفقاً وأغزر مادة وأعمق فكرة من الأديب القاعد، إذ كان من يعيش يرى ومن يسير يرى أكثر كما يقول المثل العامي. وقد كان وردزورث يقطن مقاطعه البحيرات في إنجلترا وكان كثير التجوال بين الجبال والروابي، فجاء لفظة مجرداً عارياً عري الصخور وتجردها، وكثرت فيه ألفاظ الوحشة والوحدة وهلم جرا. ونشأ كبلنج في الهند فامتلأ شعره وقصصه بوصف غياضها وأدغالها، وحفل بالتعصب الجنسي المتطرف؛ وتركت رحلات المتنبي بعض الآثار في أشعاره، من وصف الطبيعة كوصف بحيرة طبرية وشعب بوان، إلى وصف الأحوال السياسية في مثل قوله:

بكل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم

فإلى البيئة إلى ينشأ فيها الأديب وتضطرب في محيطها حياته، مرد ما يمتاز به أدبه من اتجاه خاص وطرق موضوعات دون غيرها، وتناول لها على نحو خاص، وما يتصف به من سمو أو ضعة، وورع أو استهتار، وفكاهة أو انقباض، وتفاؤل أو تشاؤم، وعمق أو سطحية، يختلف حظه من كل ذلك عن حظوظ أبناء أمته بل أبناء جيله بل أصحابه وخلفائه؛ وبسبب عوامل البيئة تلك يختلف عنترة وعمر بن أبي ربيعة والشريف الرضي والمتنبي في العربية في الموضوع والنزعة واللفظ والاسلوب، كما يختلف وردزورث وبيرون وسكوت وشلي في الإنجليزية، حتى يستغث الثاني شعر الأول أي استغثاث، ويجمل الثاني رأيه في الأخير في قوله: ذلك الملحد شلي! وما ذاك إلا لاختلاف ما يحمل رأس كل منهم من أثار الوراثة والثقافة والعقيدة والتربية والنشأة، على تعاصرهم وتشاركهم في وجوه أخرى، وعلى كونهم يعدون اليوم أبناء مدرسة واحدة.

على أن اختلاف بيئات الأدباء أشد ظهوراً في الإنجليزية منه في العربية، لأن أدباء الإنجليزية أكثر اضطراباً في المجتمع وإدخالاً له في أدبهم وأكثر ارتحالاً في البلدان وذهاباً في آفاق الفكر وإعراباً عن أفكارهم الصميمة وأثار تجاربهم، ولأن المجتمع الإنجليزي تغير وتجدد على توالي العصور من عهد اليزابث إلى الوقت الحاضر ما لم يتغيره المجتمع الإسلامي، والثقافة الإنجليزية تطورت بتقدم العلوم ما لم تتطوره الثقافة العربية، فالمحافظة كانت أغلب على المجتمع والفكر العربيين، وهي أيضاً كانت سمة الأدب العربي وديدن أدباء العربية، ومن ثم تشابهوا كثيراً في الموضوعات والأساليب على تباعد المواطن والعصور.

فأدباء العربية بعد قيام الدولة الإسلامية ودخول الأدب طوره الفني الراقي، كانوا يأخذون أنفسهم بضروب من القول يطلبون بها البراعة الفنية أو الشهرة أو الحظوة والنجاح، كالتمدح بجليل الصفات والتفاخر بتالد المجد ومدح الأمراء، وجروا في ذلك على سنن مألوفة وأغترفوا من مناهل مطروفة، حتى تشابه أولهم وأخيرهم وبعيدهم وقريبهم. فإذا قرأت مئات القصائد التي نظمها مروان بن أبي حفصة وبشار وأبو تمام والبحتري وغيرهم في مدح الخلفاء، كي ترى أثر البيئة الخاصة للشاعر في كل ذلك فلن تظفر بطائل، لأنهم إنما نظموها لأغراض مادية وعلى أنماط مأثورة، لا دخل للنفس ولا لتراثها الفكري فيها. وإذا قرأت قول أبي نواس:

ومستبعد إخوانه بتراثه ... لبست له كبراً على الكبر
لقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فوالله لا يبدي لساني حاجة ... إلى أحد حتى أغيب في القبر
فلا يطمعن في ذاك مني سوقة ... ولا ملك الدنيا المحجب في القصر

كدت تحسب قائل هذا الشعر شريفاً حسيباً عفيفاً، يزهد في غرور الدنيا ويقنع بالقليل استمساكاً بالأنفة والكبرياء، ولم تعز هذا الفخر المغرق إلى ذلك المداح السال الذي أنفق العمر في اجتداء عطايا الحكام ليبذرها في انتهاب اللذات الجسدية، وما ذاك إلا أن أبا نواس اقتفى في نظم هذا الشعر الطنان أثر أشراف الجاهلية الذين كانوا يتمدحون بالأنفة، وأراد أن يظهر أنه لا يقصر عن شأوهم في ذلك الباب من أبواب القول. والأدب العربي حافل بهذا الضرب من الإنشاء التقليدي الذي لا أثر فيه يذكر للشخصية المستقلة والبيئة الخاصة

هذا، ونشأة كثير من أدباء العربية مجهولة، وبيئتهم الأولى غامضة، وأكثرهم لا يظهرون في ضوء تاريخ الأدب إلا حين يصلون إلى ذرا الأمير، وقد كان ذلك الوصول غاية أكثرهم؛ ومن ثم نرى في تاريخ الأدب العربي بيئتين كبيرتين تتلو إحداهما الأخرى وتشملان أكثر أعلام الأدب العربي: الأولى بيئة القتال التي كانت بيئة الجاهلية، وكان الجلاد فيها هم الأشراف، والتمدح بالبلاء في الوغى هم الشعراء، وكان الأشراف في كثير من الأحوال هم الشعراء وهم الخطباء الفحول، يشفعون بلاءهم في الهيجاء ببلاغتهم في القصيد والارتجال؛ والبيئة الثانية بيئة البلاط التي اضطرب في محيطها أكثر الشعراء والكتاب بعد الإسلام وقيام الدولة، وتأثروا بها ونظموا فيها ونثروا.

فبيئات أدباء العربية المادية والذهنية كانت كثيرة التشابه من وجوه، والبيئات الأولى التي شب فيها كثير منهم مبهمة غامضة، وقد كان نقاد العربية قليلي العناية بأمر البيئة وأثرها في تكوين الأديب، إنما كانوا يعرضون لبعض التواريخ الجافة المتعلقة بمولد الأديب ووفاته ورحلته إلى بعض العواصم واتصاله ببعض الحكام، ويستحسنون بعض ما أنشأ أو يستهجنونه، ويفضلونه أو يفضلون عليه ما قال أديب غيره في نفس الباب؛ ولهم في ذلك بعض العذر، إذ كانت للقول كما تقدم أوضاع وأنماط معروفة، يأخذ الأديب بها نفسه ما استطاع، ويحاكي الأقدمين فيها ما أمكنته براعته. أما بيئة الخاصة وتراثه الذهني والنفسي، فيذره جانباً وقلما يدخله في أدبه.

ولا يرد ذكر البيئة وأثرها في كتب النقد العربي إلا عرضاً، كالذي ورد أن أبن الرومي سئل لم لا يشبه كتشبيهات أبن المعتز، فقال لسائله: أنشدني شيئاً من قوله الذي استعجزتني عن مثله، فأنشده بعض أشعار أبن المعتز التي يشبه فيها النجوم والزهور بالفضة والعنبر ومداهن الغالية وهلم جرا، فصاح أبن الرومي: واغوثاه! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها! ذاك إنما يصف ماعون بيته، وأنا أي شيء أصف؟ ووضع الجاحظ رسالته سالفة الذكر على لسان أرباب المهن، فأجرى القول فيها مجرى الدعابة والمغالاة، وكان أولى لو عرض للأمر من ناحيته الجدية. وأستعرض بديع الزمان في بعض مقاماته عدداً من فحول الشعراء المتقدمين، فقال إن أحدهم أشعر الناس إذا غضب، والآخر أشعرهم إذا رهب، والثالث إذا شرب وهلم جرا، فلم ير إلا أن هذه جبلتهم التي فطروا عليها، ولم يتخيل لبيئة كل منهم في ذلك أثراً

أما في الأدب الإنجليزي، ولا سيما في العصر الحديث، فدرس أثر البيئة وعواملها من وراثة وتربية وثقافة وعقيدة، أساس كل دراسة أدبية وكل نقد وترجمة، والوسيلة الأولى لفهم الأديب وقدر آثاره حق قدرها، وما ذاك إلا نتيجة ارتقاء العلوم والاجتماعيات في العصور الحديثة، واستفادة الأدب الإنجليزي بمجهودات أدباء الأمم الأخرى، كأدباء الإيطالية الذين ارتقوا بعلم تاريخ الأدب، وأدباء الفرنسية الذين هذبوا أصول النقد، وقد درس الأدب الإنجليزي وترجم أدباؤه على ضوء هذه القواعد والأصول، فبلغ من الوضوح والترتيب ما لم يبلغه تاريخ الأدب العربي بعد.

فخري أبو السعود


مجلة الرسالة - العدد 203
بتاريخ: 24 - 05 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى