حسين مروة - حنا مينة : شاعرٌ تشكّل روائيّاً ..

مرّةً قال حنا مينة عن نفسه :
- " أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانييْن " ...
لو لم يقله حنا هكذا ، لكان جديراً أن نقوله نحن أصدقاءه .. أصدقاءه الذين عرفوه قبل أن يتكوّنَ كاتباً روائياً ، وعرفوه وهو يتكوّن ، وهو يكافح ليتكوّن ، وهو يحفر بأظافره الأرض والصخر ليتكوّن ، أي ليجِدَ نفسه ذات يوم ٍ - كما هو اليوم - كاتباً يكتب الكفاح ويكتب الفرح في آن ..
الكفاح والفرح كانا فيه قبل أن يتكوّنَ كاتباً روائياً ، أي قبل أن يصير كاتب الكفاح والفرح الإنسانييْن ..
كانا فيه .. قلت ؟ ..
أعني كان هو يصنعهما في ذاته ، كان ينسجهما خليّةً خليّة بعرقه وعصبه وأشواقه ، حتى كان كما هو كائنٌ الآن .. أي أنه عاش الحياة كفاحاً وفرَحاً ، قبل أن يكتبَ الحياةَ كفاحاً وفرَحاً ..
نحن ، هؤلاء الأصدقاء الذين عرفنا حنا مينة قبل أن يتكوّنَ كاتباً روائيّاً ، وعرفناه في حالات التكوّن والصيرورة الصاعدة حتى عيده الستّين هذا العام .. نحن هذا الجيل " المخضرَم " من أصدقائه الذين عرفناه في عيده يصارع " الأشباح " المستخفية والمستعلنة ذات الأنياب والمخالب والأظفار البشرية التي كانت تستنزف عرقه وعصبه وأشواقه ، وكان هو يستنزف شراستها بقدرةٍ عجيبة .. نحن هؤلاء الأصدقاء بالذات وحدنا نعرف كيف صار من حقّ حنا مينة أن يقول عن نفسه إنه كاتب الكفاح والفرح الإنسانييْن ، كما صار من حقنا نحن أن نقول باعتزاز : نعم ، إنه هو هذا الكاتب ..
في حين كان حنا مينة ينسج ذاته كفاحاً وفرَحاً ، بدأَبٍ خارق ، كانت ذاته تتكوّن ، في الخفاء، لَهَباً شاعرياً يتأرجح في ذاته بقدر ما تتأرجح كبرياؤه جراحاً وطماحاً معاً .. كان الشاعر ينداح في ذاته دوائرَ دوائر تتلاحق ولا تهدأ .. كان الشاعر يتسلّل إلى خلايا جسده خليّةً خليّة ، ويستريح .. كان يوغل دخولاً في العمق من جراحه وطماحه كليْهما ، وينزرع هناك .. كان " الشاعر" فيه يحاول أن يكون هو وحده صاحب هذه الكينونة الجميلة المتألّقة التي اسمها " حنا مينة " بالخطّ العريض البارز ..
لكن "الشاعر" في حنا مينة لم يتشكّل شاعراً يمارس قول الشعر فنّاً مستقلاً ، أي يصوغ القصيد جنساً خاصاً بين أجناس الفن الأدبي ..
" الشاعر" في حنا مينة اختار أن يتشكّل كاتباً روائياً .. أقول : اختارَ ؟ .. هل في المسألة اختيار ؟.. وهل هو اختار ، أم الكتابة الروائية اختارت أن تكون هي صورة " الشاعر" في حنا مينة ، فكانت ؟ ..
لا .. ليس من اختيارٍ هنا .. إنّ المسألة هي أنّ "الشاعر" في حنا مينة لم يستطع أن يتحمّلَ ثقل التفاصيل الكثيرة ، الغزيرة ، الدقيقة ، المتشابكة ، والمتنافرة التي يحملها جسده الناحل على كتفيْه الناحلتيْن من حصاد التعامل اليومي الكادح مع الحياة .. لم يستطع أن يتكوّن " شاعراً " يقول القصيدة ، لأنّ التفاصيل هذه لم يستطع أن ينهضَ بها الشعر/ القصيدة ، ونهض بها الشعر / الرواية .. أي أنّ حنا مينة شاعرٌ تشكّل كاتب روابة ، بدل أن يتشكّلَ كاتب قصيدة .. لكنّ الشاعر فيه ظلّ يحكم مسارَ العلاقات الداخلية لبُنْيانه الروائي .. وهذه ميزة حنا مينة الأولى والأهم .. فهو يبني عمارته الروائية على نظام ٍ من العلاقات الإنسانية ذات الوهج الشاعري ،بمعنى أنّ عمارته الروائية تتميّز بكونها مبنيّةً برهافة وشفافية وإيقاعية ، هي رهافة الشعر وشفافيته وإيقاعيّته المهيبة ..
***
شاعرية الكفاح والفرح عاشها حنا مينة قبل أن يكتبها .. عاشها عَرَقا ً يتصبّب مع أنفاسه ، وعصباً متوتّراً ليله ونهاره ، وأشواقاً إلى الأقاليم العلى تتوقّد في عظامه .. عاشها دأباً في العمل اليومي يأكل من لحمه ويشرب من دمه .. وعاشها نسَقاً شيّقاً من صبوات الشباب موقعةً تقاسيمَ وبشارفَ ومواويلَ تعلن مسرى العلاقة بين الكفاح والفرح عنده ..
***
شاعرية الكفاح والفرح عرفناها في حنا مينة وتذوّقناها قبل أن يعرفها ويتذوّقها الذين يقرأون الآن أعماله الشاعرية بأبنيتها الروائية .. عرفناها وتذوّقناها في حلاوة تلك الأيام من الخمسينيات حين نكون في دمشق ويكون هو منهمكاً - حتى الظهيرة - بعمل الجريدة ومنهمكاً بنا بعد ذلك ..
***
شاعرية الكفاح والفرح هي أروع العطاء الفنّي في رواية حنا مينة ، لأنه العطاء الأكثر قدرة على أن يمنحنا رؤية العالم كما يحياه أبطاله وكما ينبغي أن يحيوه هم والآخرون ، دون أن تصيبنا الرؤيةُ بعمى الألوان ..
***
عيد ميلادكَ الستّين : عيد الكفاح والفرح الإنسانييْن .. عيد الذين يكافحون ويفرحون .. عيدنا ..



- جريدة " النداء " بتاريخ 19 شباط 1983

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى