وليد دكروب - عمامة جدّي..

ذات صباح من خريف عام 1938 خرج الشيخ حسين مروّة (أبو نزار) من منزله في بغداد معتمراً عمامته البيضاء ومودّعاً زوجته الحبيبة فاطمة وأبناءه الثلاث - آنذاك. وكان قد أنهى للتوّ دراسته النجفيّة بعد انقطاعٍ عنها دام عدّة سنوات أمضاها في التدريس. وكان الشيخ مروّة قد اتخذ قراره النهائي بعدم ممارسة أي نشاط يتعلّق بكونه رجلَ دين، فاختار طريق الكتابة والصحافة والتدريس متسلّحاً بعلومه الدينيّة ومعرفته العميقة والجادّة للتراث العربي الإسلامي. توجّه الشيخ الشاب إلى متجر للملابس "المدنية"، خلع جبّته وعمامته وارتدى حياةً جديدة واتّخذ لنفسه مستقبلاً يصنعه بيده معتمداً على نفسه وعلمه. بعد ذلك عرّج "الأستاذ" حسين على محلّ للحلاقة حيث حلق لحيته الخفيفة وصفّف شعره الأسود وحمل جبّته وعمامته في لفّة من الورق الأسمر وعاد ليطرق باب منزله. "من؟" سألت فاطمة من وراء الباب. "افتحي يا فاطمة، أنا حسين"، أجاب الأستاذ. فتحتْ فاطمة الباب وانتفضتْ أمام قامة لم تألفها ولم تعرفها وجمدت للحظة قبل أن تسارع إلى ردّ منديلها على شعرها ووجهها؛ نظرتْ إليه بدهشة، "شنو هذا؟.. منو إنتَ؟ شه..شه..". ابتسم الأستاذ بلباسه الإفرنجي وهدّأ من روعها بصوته الأليف الضاحك: "أنا حسين، أبو نزار". دلف أبو نزار إلى الداخل مسرعاً ثم إلى غرفتهما بعد تأكده من معرفتها له ، وسلّمها اللفة الورقية. مرّتْ أيام معدوداتْ، لم تجهد خلالها أم نزار كثيراً لتتدبّر أمر القماش الأبيض الطويل للعمامة، فخاطت منه ثلاث ملاءات بطّنتها بالصوف وجعلت منها لُحُفاً تدثر بها أبناءها على أبواب الشتاء القادم. أمّا الجبّة فقد لبسها الأبناء بزّاتٍ وسراويل تقيهم البرد...
فوجىء أبو نزار لمّا رأى ما فعلتْ، فكان جزاؤها ضَمّةٌ لها إلى صدره ومديح يشبهه في روعته: "كم أنتِ مدبّرة يافاطمة.. كم أنتِ رائعة!"
وهكذا، بتدبيرٍ من أمّ نزار، كعادتها، انتقلت جبّة أبي نزار وعمامته الناصعة لتعيشا حياة جديدة وتبعثا الدفء إلى العائلة الصغيرة التي بدأت تكبر شيئاً فشيئاً، وانتشر دفؤها يخيّم على أبناءَ كانوا أحوج إلى مثل ذلك القماش.. وظلّوا محاطين برعايتها مع إخوتهم وأخواتهم، وبقدرة هائلة على حسن تربيتهم مخفّفةً عن زوجها عناء مستقبلٍ جديد اختاره بنفسه. وبدأت الرحلة: رحلة حسين مروة ، وكان لأم نزار الفضل الأول له في مسيرته التي يعرفها الجميع ويجهلون تفاصيل خاصة مخفيّة من حياة الزوجيْن ...

وليد دكروب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى