محمد مصطفى صفوت - تاريخ التاريخ.. (2)

هل التاريخ علم؟

يرى بعض المفكرين أن للتاريخ قوانينه الطبيعية، وقامت محاولات للوصول إلى معرفة هذه القوانين، وتوالت نظريات مختلفة: فهناك النظرية الدينية التي سادت العصور الوسطى، وهناك نظرية التقدم والنمو، وهناك محاولات باتستا ومنتسكيو وغيرهما، وهناك نظرية كارليل التي تقول بأن الأبطال وحدهم هم الذين يغيرون مجرى التاريخ؛ ونظرية هجل التي تجعل الدين مفتاح التطور والنمو، فاليهودية - في نظره - تمثل الواجب، والكونفيوشية تمثل النظام، والبوذية الصبر، والمسيحية الحب، والإسلام العدالة

ولقد تعرض أوجست كنت لتفسير قوانين التطور، فقال: إن التاريخ تفسره الأفكار؛ فالإنسان مر خلاله في ثلاث مراحل، المرحلة الأولى مرحلة تفسير الظواهر الطبيعية بأنها ناشئة من عمل آلهة خياليين؛ ثم مرحلة تفسير هذه الظواهر بمعنويات مجردة، والأخيرة محاولة فهمها بالطرق العلمية، بالملاحظة والتجريب

ولما وضع كارل ماركس نظريته المادية في تفسير التاريخ قال: إن تطور الجماعة متوقف على الظروف الاقتصادية وحدها. ولقد بني ماركس نظريته على أساس فكرة كفاح الطبقات في سبيل الرقي المادي، ذلك الكفاح الذي ينتهي، في نظره، بانتصار الطبقة الأكثر عدداً والأسوأ حالاُ على طبقة المثرين القليلة العدد. ويسمى ماركس ذلك قانون التطور الاجتماعي، ويظل ذلك التطور مستمراً حتى يتلاءم نظام الملكية مع نظام الإنتاج، أي إلى ذلك الوقت الذي تصير فيه الملكية اشتراكية وتنصر فيه طبقة العمال انتصاراً حاسماً. ولقد سبق كارل ماركس إلى الإشادة بأهمية العوامل الاقتصادية آدم سميث وأتباعه من أمثال ريكاردو

وجاء (بكل في كتابة (تاريخ التمدن في إنجلترا) ينحني باللائمة على المؤرخين لأنه لم يجد أحداً منهم اهتم بإيجاد وحدة مترابطة من حقائق التاريخ. وهو يرى أنه في كل ميادين البحث قد صار للتعميم قيمة عظمى، وبذلت جهود للخروج من حيز الحقائق الجزئية إلى المعاني العامة بينما لا يرى أثراً لذلك في التاريخ، فهم المؤرخين في نظره هو سرد الحقائق، ولذا يرى أنه أصبح من السهل على كل مكسال لا يحسن التفكير قراءة بضعة كتب ليصير مؤرخاً. ويرى (بكل) أن أعمال الإنسان ما زالت ترسف في أغلال القوى الروحية، فلا يمكن وجدان سبب أو نتيجة؛ ويقول لقد وجدنا في ناحية مهمة من الإعمال الإنسانية قوانين طبيعية، لا سيما في ميدان الاقتصاد السياسي، فقد فسرت لنا قوانين الاقتصاد الأزمات التي كانت تقع في الماضي. ويتساءل (بكل): لماذا لا نجد قوانين لأعمال الإنسان الأخرى. يرى أن هناك عوامل كالمركز الجغرافي والجو والتربة والوسط الاجتماعي تحدد أعمال الإنسان، ويعزو تقدم البشرية إلى العقل لا إلى العاطفة والأخلاق

ومن أهم من قال بوجود قوانين للتاريخ فسيولويوجي أمريكي (دريبر ففي تاريخه (نمو أوربا العقلي) يمثل المجتمع بالفرد ويرى أن التقدم الاجتماعي خاضع لقوانين طبيعية كالنمو الجسمي، فحياة الفرد ما هي إلا تصغير حياة الشعب. والاثنان لهما طفولتهما وشبابهما وكهولتهما وهرمهما

هذه المحاولة من جانب المؤرخين لوضع في التاريخ في مصاف العلوم، ناشئة عن أن الاستقراء والتجريب قد شملا كل العلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر. والاستقراء والتجريب لا يمكن تحقيقهما في التاريخ، لأن العلم الطبيعي يبحث في أشياء هي في متناول الإنسان يستطيع أن يقلبها على وجوهها المختلفة ويجري تجاربه كما يريد. فالعلوم الوصفية والطبيعية دقيقة لأن البحث فيها موضوعي صرف. أما التاريخ فهو من العلوم الإنسانية، وكل العلوم الإنسانية غير دقيقة لأن حياة الإنسان لا يمكن قياسها ولا وصفها بنفس الدقة التي نستطيعها في العلوم الوصفية، فنحن لا نستطيع قياس عقلية الإنسان ولا عواطفه ولا معلوماته قياساً دقيقاً. بل وأكثر من هذا أن كلا منا لا يستطيع أن يتعرف ما نفوس الذين يشاركونه المعيشة، فنحن كما يقول برسي نان في كتابه: (التربية. . .) كجزائر منعزلة يفصلها بحر لا يمكن عبوره، وأن وسيلة التفاهم بيننا وهي اللغة غير كافية، فشتان بين ما يجده الإنسان في نفسه وبين ما يصنعه للغير. فكيف إذن يعرف الإنسان ما في نفوس الناس الذين مضوا، وكيف يقدر الدوافع لأعمالهم والظروف التي قامت فيها هذه الإعمال. ثم إن الإنسان من جهة أخرى يفسر أعمال الناس وفق شخصيته ومزاجه وثقافته لا يرى في الأشياء إلا ما يحب أو ما يستطيع أن يراه فيها. فقد يرى المؤرخ في عمل ما العظمة وما هو بعظيم، وذلك لتأثره بطريقة لا شعورية بشخصية من قام بذلك العمل. ومن جهة ثالثة هل لدنيا مقاييس ثابتة نحكم بها على أعمال الناس؟ هل نقيس هذه الإعمال بحب الشخص لذاته أو بحبه للآخرين أو برغبته في أداء الواجب. الواقع ليس هناك مقياس متفق عليه. وكيف نفسر الحوادث بمنطق العقل أم بمنطق الجموع أم بمنطق الدين؟ ثم بعد ذلك هل من الممكن في تقدير أعمال الناس في الماضي أن نفصل بين ما ورثه الإنسان من آبائه وأجداده وبين ما اكتسبه من بيئته؟

التاريخ يدرس حقائق الإنسانية الماضية، هذه الحقائق ليست في متناول أيدينا، وهي لن تعود مرة أخرى. ثم هي مجرد آثار ومخلفات تعطينا فكرة عامة، وعلينا نحن تكميل التفاصيل باستعمال الخيال. فهناك فعلاً حلقات مفقودة في التاريخ. وكثير من الحقائق المهمة قد عفا دون أن يترك وراءه أثراً. ثم من الذي كتب أو أنشأ هذه الآثار؟ أليسوا من بني الإنسان لهم ميولهم وأغراضهم الخاصة! ومصادر التاريخ فوق ذلك لا تستلزم معرفة بالتاريخ فحسب، بل معرفة تامة باللغات وطرق الكتابة والسياسة والاقتصاد والاجتماع مما جعل البحث في التاريخ عسيراً.

ويظهر أن محاولات بعض المفكرين لوضع قوانين للتاريخ لم تنجح تماماً، فالنظريات مختلفة، حتى نظرية التقدم لا زالت طائفة محترمة من المفكرين ترفضها لا سيما في النواحي الروحية. والديانات تحدثنا بأن الإنسان خرج من حياة نعيم دائم وعيش موفق إلى حياة كلها تعب وشقاء لا ينتهي. ثم ما الذي يدرينا أن العالم لا يزال في شبابه أو هو في طريق الفناء. وكثير من حوادث التاريخ بعد ذلك قائمة على الصدق لا دخل لإرادة الإنسان فيها ولا يمكن تعليلها.

ويرد على هذه الاعتراضات بالقول إن هناك ظروفاً تقع فتغير الموقف وليس للإنسان دخل فيها. ولكن بالرغم من ذلك هناك تطور وتقدم في الحياة لا يمكن مدافعته. وكما يرى جيبون بأن لكل عصر قيمته في زيادة ثروة الجنس الإنساني وسعادته ونواحي فضائله: فالإنسان في القديم عاري الجسم والعقل لا يعرف قانوناً ولا فناً ولا أفكاراً. ثم تحسنت حالته فعمل في الأرض وطوف في أرجاء المحيط واستثمر قواه الجسمية والعقلية كما استثمر قوى الطبيعة وذلك لنفسه. ثم إن كثيراً من الصعوبات السابقة قائمة على النقص وعدم الكمال الإنساني. ويجب ألا نبالغ فيها، فكثرة الناقدين والباحثين قد أظهرت إلى حد كبير ما هو صحيح وما هو خطأ، أو هي على الأقل تحاول ذلك. ولذلك لا محل للاعتقاد بأن التاريخ ما هو إلا جملة خرافات أجمع الناس على تصديقها. والواقع أننا نجد لمعظم عصور الماضي آثاراً خالدة مادية وروحية لا يمكن الطعن فيها. ومنها ما هو في أنفسنا وثقافتنا وعقائدنا وتقاليدنا.

التاريخ فن وعلم وفلسفة: فهو فن وفلسفة من حيث أنه يستلزم من المؤرخ معرفة واسعة بنواحي الثقافة وبأمور العالم، وقدرة على اللغة والتعبير والتصوير. فالمؤرخ كالمصور أمامه الحياة الاجتماعية وعليه هو وضع صور لها. وكما أن المصور يصور الناحية الطبيعية التي تروقه بالطريقة التي يرضاها، فكذلك المؤرخ. والتاريخ علم من حيث أنه قائم على أسس صحيحة في البحث والتفكير في المصادر الأصلية والوثائق ومقارنتها ومناقشتها والحكم عليها. وطريقة البحث في التاريخ ولو أنها علمية إلا أنها في ذات الوقت فنية وشخصية، لأن دراسة التاريخ ليس معناها كشف الماضي فحسب وإنما تقدير الماضي، فلا بد من إحساس بني الإنسان بشعور خاص عند دراستهم للإنسان. فهل هم إلا أبناؤه وورثته!

محمد مصطفى صفوت

مجلة الرسالة - العدد 481
بتاريخ: 21 - 09 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى