محمد أمنصور - بونعــالة

كلما لاح بوجهه القمحي المليء بالبثور ، المتدلي من قامة سامقة ، منثنية كنخلة مائلة إلا ويصرخ أطفال الحي :

ـ وا بونعالة!!... وا بونعالة\!!

يفتح بونعالة الباب القصديري الكبير الذي يتوسط السور ليدخل أو يخرج، فترمقه إحدى المرأتين من نافذة سفلي أو فوقي الدار، المكونة من طابقين قبالة السور العالي ،لا يفصل بينهما سوى الطريق المليئة بالحفر التي تشكل شريان الحي و مساره الطبيعي . اليوم ، عاد إلى مسكنه الغامض يحمل في يديه مطرقة و مسامير من كل الأحجام .أمس ، أدخل كيسين ضخمين من الرمل حملهما على ظهره بالتتابع من مكان مجهول خارج الحي . قبل أمس ، رأته البتول يدفع أمامه برويطة من الآجر. قبل أسبوع أو أسبوعين شوهد يحمل على كتفيه رافعات خشبية ضخمة كادت من فرط ثقلها أن تلصقه بالأرض. لا يمكن للحسين بونعالة أن يدخل إلى " بيته " الذي يشبه ورشا كبيرا دون أن يحمل معه مادة من مواد البناء. هو ليس بيتا على وجه التحديد و إنما بقعة أرضية في طور البناء منذ أن اشتراها قبل سنوات، ليحل شبحا مقيما بين سكان حي فورتينا الذين يعرفون بعضهم بعضا بشكل جيد. الحسين بونعالة لا يبني بيتا كما يشاع في الحي بل فيلا جميلة. و لأن شكل هذه الفيلا لا يريد أن يكتمل أو يظهر حتى بالنسبة لفوزية المصنانة و زوجها، اللذين يقطنان في الفوقي المنتصب قبالة السور العالي، فقد زفرت زفرة حانقة في وجه جارتها البتول التي التقتها فوق السطح وهما تنشران غسيلهما:

ـ هل ينوي هذا العقروش أن يبني فيلا وحده دون مساعدة أحد؟ .. أيعقل أن يفهــم في المرطوب و الضالا و البغلي و كل شيء ؟ ! .. اللعنة على البخل و التمكشيش !! .. لقد استغرق إلى حدود اليوم أكثر من ست سنوات، و لست أدري متى ينهي هاد المصيبة بناء جحره الذي سيهدم عليه إن شاء الله !

لزمت البتول الصمت . شرد ذهنها متفكرة في أحوال علاقتها المتقلبة بفوزية المصنانة واستحضرت دورها الحاسم في شيوع هذا اللقب .فإذا كانت فوزية تعرف كيف تقلي لها السم أمام الجارات، متعمدة الاعتزاز بشيطنة ابنها الهادي كلما أثير موضوع الأبناء والإنجاب والعقم ، فإن الباتول بدورها عرفت كيف تستغل واقعة تلك الليلة المشؤومة في المسار الزوجي لجارتها فجعلت منها أكبر فضائح الحي .. فقد استيقظ سكان فورتينا تلك الليلة على صوت عقا الموبيل و هو يصرخ جارحا سكون الليل :

ـ آنا بالله و الشرع يا هاد لمرا إلى ما تفارقي معايا !! ..شوفي آش تديري لهاد الريحا الخانزا ديالك و لا عطــــيني ب التيساع .. !!

و لم يكتف عقا الموبيل بذلك ، بل خرج حافيا إلى عتبة باب السفلي و صرخ :

ـ آعباد الله .. امراتي مصنانة !! .. أعباد الله .. أنا عييت !!

تلك الليلة التي لا تشبه أخواتها ستفرح البتول كما لم تفرح من قبل. مزيج من الشماتة و الحقد و الإحساس بالانتـقام. و لم تقف عند هذا الحد، فقد اعتقدت بشكل جازم أن الموبيل سيطلق فوزية لا محالة، فشرعت كلما ذهبت إلى الحمام أو التقت بالجارات في عرس أو جنازة، إلا وحكت من جديد وقائع الفضيحة التي كانت من بين شهودها القلائل.تحكي ما حدث أمام عينيها إبان صراخ الموبيل، و ما حدث حتى قبل الصراخ. تتذكر كيف هم عقا بتقبيل زوجته، و كيف حاولت أن تخفي رائحتها الكريهة بمزج عطر تابو مع ماء الزهر، و كيف تأفف الموبيل من بقايا رائحة الثوم في فمها، وكيف انزعجت بدورها من وقاحته فقررت أن تحرمه من لمسها والاقتراب منها تلك الليـلة، وكيف عادا مرة أخرى إلى موضوع الصنان ، فتبادلا التهم بالعفونة و مسؤوليتها هي بالذات و الصفات في رفض الذهاب إلى الطبيب ..إلى غير ذلك من الوقائع التي أخرجت عقا عن طوره فبدا له كبرياؤها زائفا وقال لها بالشفوي أنت طالق فصفعته، نعم ، تقسم الباتول، و الله إنها صفعته فهرول نحو المطبخ حاملا سكينا ليذبحها، ولم يذبحها فقط لأنها كانت قد استغاثت بجارتها البتول، فلما يئس من الوصول إليها اتجه نحو عتبة السفلي وشرع يصرخ صراخه ذاك المعلوم.

ظنت البتول أن فوزية المصنانة بعد الفضيحة، سوف لن ترفع الرأس أو تجد الوجه لكي تنظر في وجوه الجارات، و في وجهـها هي بالذات التي آوتها تلك الليلة ؛ لكن شيئا من كل ذلك لم يحدث. فعقا لم يطلق فوزية، و فوزية لا تزال تبحـلق في الوجوه أكثر من أي وقت مضى. وها هي الآن كعادتها تريد أن تغيظ جارتها العاقر بالحديث عن حاجة بونعالة للزواج، وما همها أمر عزوبيته أو زواجه، وإنما تلك الرغبة المسمومة في جر الحديث إلى حكاية الإنجاب ونعمة الأطفال وشيطنة ابنها الهادي و كل ما يحرك مواجع الجرح الغائر.ستنتبه الباتول بعد هذا الشـرود الطويل إلى أن صمتها قد طال، فتقول متظاهرة باللامبالاة :

ـ وما لنا نحن .. ليفعل بنفسه أو خربته ما يشاء .. ياك ما كا يحاشيه لحد ؟!

ـ يا اختي يمشي غير يتزوج بحال الناس ابعدا.. ويديرلو اوليدات.. و يلبس بحال عباد الله !!.. واش كاين ما زال شي واحد اليوم كايدير فرجليه صاندالا دميكا ؟ .. وعايش بوحدو كي الشيطان ..كالك كايبني فيلا يا حسرة .. الله يبقي الستر !!

كان أول ما شيده الحسين بو نعالة في بقعته الأرضية التي تقع وسط حي فورتينا الممتد لمسافة ربع كيلو متر، هو الســور العالي الذي يحجب عن سكان الحي و المارة رؤية ما يحدث في الداخل. قبل أن يحل بفورتينا كان أطفال الحي يتخذون من تلك البقـعة ملعبا للكرة بعد عودتهم من المدارس. في البداية ظن الجميع أن الرجل ذا الوجه القمحي المليء ببثور تبعث على التـقزز لن يكون سوى حارس الورشة التي ستصلح لبناء فيلا جميلة، و زاد من اعتقادهم ذاك تلك الأسمال الرثة التي ظل يرتديها طيلة مقامه بينهم، وبالذات تلك الصندالة البلاستيكية البيضاء التي لم تبرح قدميه منذ سنوات. و عندما تفتقت شيطنة أولاد الدرب عن ذاك اللقب العجيب صار اسمه الكامل الحسـين بونعالة . استحسن الآباء و الأمهات اللقب المتطابق مع رجلي الرجل، فتبناه الجميع. أما هو ، فكان يعلم من مناوشات الأطفال أثناء تردده على المحل أن ذلك اللقب صار لصيقا به، لذلك تظاهر باللامبالاة ، و صار يتمادى في تجاهلهم إلى حين انشغالهم بإحدى مقابلات كرة القدم التي يحلو لهم لعبها وسط الطريق، بين السور العالي والدور المقابلة له .

فجأة، لاح الهادي ذي السنوات الستة مهرولا، لاهثا وقد بدا عليه الذعر وامتلأت عيناه بالدموع :

ـ واماما!!.. واماما!!.. الزمر د منير لاح لي كورة ديالي فدار بونعالة.. وا ماما.. وا ماما..

ورغم حالة البكاء الشديد التي كان عليها الطفل الهادي، إلا أن كلمة الزمر التي تفوه بها لم تعجب الباتول فاغتنمتها فرصة لكي تنهره . انتفخت أوداجها وقالت :

ـ إيوا ..يوا ..بلا زمر بلا ويل ..ويلي ! ..احشوما عليك ..هاداك خوك هاداك ..!!

وما كادت تتفوه بما قالت، حتى جفلت فوزية المصنانة في مكانها كحمار وحشي أحس بمقدم خطر داهم، ودون أي حساب للكلمات صرخت في وجهها :

ـ إيوا.. يلا ما بقاش فيك ولديه وتشوفي !!.. ويلا كان هاداك ماشي زمر ..جيبيلوا كورتو انت انيت !!

تلقت الباتول كلام فوزية المصنانة كصفعة غير متوقعة. انتشلت كفها من الحبل الذي كانت توشك أن تعلق عليه سروال بيجامة زوجها فبدت النقمة واضحة على محياها. بدأت أصابعها ترتعش فارتفع من جديد صراخ الهادي بلوعة تفوق السابق :

ـ وانا ماشي شغلي !! .. بغيت كورة ديالي !!! .. وا بابا.. وا ماما !!!

فكرت فوزية المصنانة مليا في الضربة القاضية التي سددتها لجارتها اللدودة ، ولتحاشي النظر في عينيها انعطفت نحو الهادي مكفكفة دموعه :

ـ ما تبكيش آوليدي ..ماتبكيش ..فاش يجي باباك ..غادي يمشي يجيب ليك كورتك (...)

ولم تكد تنهي كلامها حتى صعد شيء مدور كالبغرير أو الملوي المنشطر ..ارتفع عاليا أمام عيني الطفل و المرأتين ليعود مرتدا نحو الأرض :سطاف!!... سقط القرص المنقسم وسط الطريق فاتجه شطراه في اتجاهين متعاكسين. لم تكن السرعة التي وقع بها ما وقع تسمح لفوزية المصنانة بقول أو فعل شيء محدد، لكن صرخة عظيمة كانت قد خرجت من حنجرة الطفل الهادي مثل ضربة سيف في الهـواء غير تاركة أي مجال لمزيد من الكلام :

ـ واكورتي!!

ملحوظة: نشرت هذه القصة في العدد الثاني من مجلة قاف صاد التي تشرف على إصدارها مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، وقد شابتها الكثير من الأخطاء الدلالية التي لا تتحمل المجلة مسؤوليتها، لذلك ينوه المؤلف إلى أن الصيغة الرقمية للقصة هي المعتمدة لديه.

9 ماي 2004/ مكناس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى