أحمد حسن الزيات - 10 - دفاع عن البلاغة (2) الأسلوب

من رجال الأدب من يرى أن العلاقة بين المعنى واللفظ كالعلاقة بين الجسم والثوب، لكل منهما على تلازمهما وجود ذاتي مستقل له أوصافه وخصائصه؛ فالجسم يقوَّم بحساب الخلقة؛ والثوب يقوَّم بحساب الصناعة. ومنهم من يرى أن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الروح والجسد، لا يوجد هذا بغير ذاك؛ فإذا انفك أحدهما عن الآخر الحي وفسد الكائن. ونحن كما علمت من قبل على رأي هذا الفريق. فقد قلنا في كلمة سبقت إن الأسلوب هو الهندسة الروحية لملكة البلاغة؛ وإن البلاغة التي نعنيها هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل: إذ الكلام كائن حي روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس

فالفكرة والصورة في الأسلوب كلٌ لا يتجزأ، ووحدة لا تتعدد. وليس أدل على اتحادهما من أنك إذا غيرت في الصورة تغيرت الفكرة، وإذا غيرت في الفكرة تغيرت الصورة. فقولك أعنيك، غير قولك إياك أعني. وقولك كل ذلك لم يكن، غير قولك لم يكن كل ذلك. وقولك ما شاعر إلا فلان، غير قولك ما فلان إلا شاعر. فترتيب الألفاظ في النطق لا يكون إلا بترتيب المعاني في الذهن؛ وإن مزية الألفاظ (ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك). (ولن يُتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير وتخصيصٌ في ترتيب وتنزيل. وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبة. . . فقيل من حق هذا أن يسبق ذاك، ومن حكم ما ههنا أن يقع هنالك. . . فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ، فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده). وإنا حين ذكرنا أن الأسلوب هو الطريقة الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام، كنا نريد بذلك اختيار الألفاظ على الشكل الذي يرتضيه الذوق، وتأليف الكلام على الوضع الذي يقتضيه العقل.

فالأسلوب إذن هو طريقة خلق الفكرة وتوليدها وإبرازها في الصورة اللفظية المناسبة. هو ذلك الجهد العظيم الذي يبذله الفنان من ذكائه ومن خياله في إيجاد الدقائق والعلائق والعبارات والصور في الأفكار والألفاظ، أو في الصلة بين الأفكار والألفاظ. ولهذا الجهد جهتان: جهة موضوعية تتصل بالنظام، وهو حسن الترتيب، وصحة التقسيم، وإحكام وضع القطع في رقعة الشطرنج التي نسميها جملة أو فقرة أو فصلاً أو مقالة. وجهة أخرى شكلية تتصل بالحركة، وهي خلق الكلمات والصور والتأليف بينهما على نمط يحدث الحياة والقوة والحرارة والضوء والبروز والأثر

من ذلك نرى أن الأسلوب خلق مستمر: خلق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ. ومن ذلك نرى أن الأسلوب ليس هو المعنى وحده، ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار، والصور، والعواطف، ثم الألفاظ المركبة، والمحسنات المختلفة

والمراد بالصورة إبراز المعنى العقلي أو الحسي في صورة محسَّة، وبالعاطفة تحريك النفس لتميل إلى المعنى المعبَّر عنه أو لتنفر منه

ففي قول أمير البلاغة علي بن أبي طالب: (ألا إن الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، وخُلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار؛ وإن التقوى مطايا ذُلُل حُمل عليها أهلها، وأُعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة). تجد صورتين: صورة الفرس الشموس لم يروَّض ولم يلجم فيندفع براكبه جامحاً لا ينثني حتى يتردى به في جهنم؛ وصورة الناقة الذلول قد سلس خطوها وخف عنانها فتنطلق بصاحبها في رسيم كالنسيم حتى تدخل به الجنة. ثم تجد عاطفتين: عاطفة النفور من الألم الذي يشعر به الخاطئ المستطار وقد جمحت به خطاياه الرُّعن في أوعار الأرض حتى ألقته في سواء الجحيم؛ وعاطفة الميل إلى لذة المتقي الوادع وقد سارت به تقواه سيراً ليناً حتى أبلغته جنة النعيم

ذلك من حيث الموضوع؛ أما من حيث الشكل فتجد اختيار الألفاظ المناسبة للفكرة، كالمطايا وما يلائمها من الانقياد والإيراد هنا، وكالخيل وما يوائمها من الشماس والتقحم هناك. والفروق الطبيعية بين هذين الحيوانين في هذين المكانين لا تخفى على ذي لب. ثم تجد بعد ذلك هذا التأليف المتوازن المحكم الرصين، وهذه المقابلة البديعية بين عشرة معان لا تكلف في صوغها ولا تعسف

أما القائلون باستقلال طرفي الأسلوب فجريرة رأيهم على البلاغة أن الذين فسدت فيهم حاسة الذوق أهملوا جانب اللفظ، والذين ضعفت فيهم ملكة العقل غضوا من شأن المعنى، فضلوا جميعاً طريق الأسلوب الحق؛ فلا هؤلاء سلموا من معرَّة العيّ، ولا أولئك سلموا من نقيصة الهذر

قال أبو هلال: (ليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي؛ وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه. . . مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. . .). وقال لابروبير: (إن هوميروس وأفلاطون وفرجيل وهوراس لم يبن شأوهم على سائر الكتاب إلا بعباراتهم وصورهم). وقال شاتوبريان: (لا تحيا الكتابة بغير الأسلوب. ومن العناء الباطل معارضة هذه الحقيقة؛ فإن الكتاب الجامع لأشتات الحكمة يولد ميتاً إذا أعوزه الأسلوب) وهؤلاء ومن لف لفهم من أنصار الصياغة أقرب إلى الصواب من أولئك الذين كفروا بها وشنعوا عليها. وتعليل ذلك ستقرأه في الحديث المقبل.

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات

مجلة الرسالة - العدد 514
بتاريخ: 10 - 05 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى