خيال علمي منال عبد الحميد - خنثى.. قصة قصيرة من أدب الرعب

وقف القطار أخيرا في محطة مدينتي.. هذه ثالث مرة أعود فيها إلي بلدتي خلال شهر واحد لكنني أحسست أن المسافة بين القاهرة وبين مدينتي الواقعة في محافظة سوهاج قد طالت فجأة أكثر من المرات السابقة كلها..

أكان هذا تخيلا أم هلوسة بسبب شدة النعاس التي داهمني طوال الطريق.. كنت أشعر بأن رأسي معلقة في الفضاء بدون شيء يمسكها وتسقط عيناي مغلقتان وأذهب في نوم عميق لمدة خمس أو ست دقائق حتى يلكزني صديقي الجالس بجواري:

– فوق يا عم.. أنت كده مش هتعرف تروح بيتكم!

صديقي وزميلي هشام كان قادما معي علي نفس القطار لكنه سينزل في مرحلة تالية لي لأنه من مدينة أبو تشت:

– الواحد نعسان علي الآخر والله يا أبو الهشاشيم!

ضحك وقال لي وهو يوقف بائع حمص وترمس ولب ويبتاع لنا قليلا منه للمرة الثانية:

– خد قزقز وأتسلى يمكن تفوق حبتين!

ويبدو أن حظي سيئا فلم أكد أضع أول حبة ترمس في فمي حتى وجدت أن القطار توقف:

-هو إحنا عدينا جرجا؟!

رد علي وهو يقزقز الترمس بنهم:

– من بدري يا عم الحاج!

-يا لهوي!

قمت واقفا وأنا أسحب حقيبتي من فوق رأسي وهرولت ناحية أحد أبواب القطار المفتوحة.. وبسبب النعاس والصداع وقلة الضوء لم أستطع أن أميز المحطة في البداية.. صادفت رجلًا بدينًا يحمل حقيبة وسبت في يديه يهم بركوب القطار فسألته فورًا:

– مش دي محطة..

ذكرت له اسم مدينتي فقال وهو يتجاوزني ويدخل إلي العربة:

-أيوه يا ولدي.. هي!

سارعت بالنزول قبل أن يتحرك القطار ثانية ثم جريت علي الرصيف حتى وصلت إلي النافذة التي يجلس هشام بجوارها ووجدته يمد رقبته مستطلعا في كل مكان باحثا عني كما يبدو:

– أنت وصلت حمدا لله علي السلامة!

-أيوه يا عم الحاج.. المحطة كانت هتفوتني من تحت راسك!

ضحك وقال لي وهو يناولني كيس الترمس الذي نسيته معه:

– وأيه يعني! كنت كمل معايا علي أبو تشت وإحنا كنا نضيفك هناك ونقريك أحسن من ناسك يا واكلهم!

-يا عم روح.. أنتوا لاقيين تاكلوا !

أجبت عليه وأنا أبتعد ملوحا له بيدي مبتسمًا وأنا أسمعه يضحك من خلفي!

*********

كانت المسافة بين المحطة وبين بيتنا الواقع في طرف المدينة الآخر طويلة جدًا يبلغ طولها ثلاثة كيلومترات أو ربما أكثر.. غادرت مبني محطة القطارات نفسها ثم انحرفت يمينا لأمر من شارع صغير يسيطر عليه الظلام في تلك الساعة المبكرة جدا من الصباح عدا بعض أعمدة الإنارة القليلة التي تعمل وتنير المنطقة حولها بشكل ما ومحل (سوبر ماركت) هو الوحيد الذي وجدته مفتوحًا في طول هذا الشارع وعرضه.. ذهبت إليه وشربت زجاجة كوكاكولا علي الواقف لأنني كنت عطشان جدا بسبب الترمس واللب.. نقدته ثمن المشروب ثم دخلت وسط الشوارع الطويلة المتفرعة من شارع المحطة حتى وجدت نفسي إزاء السور المنخفض الذي يحجب الترعة والذي قام معه الأهالي بالواجب تمامًا.. فهو ملطخ تماما بكل أنواع القاذورات والخدوش والحفر كما أن المتسولين اتخذوا منه، حتى قبل أن يتم بنائه، موئلا لهم.. تجدهم هناك فرادي وجماعات جالسون بجواره يتسولون ويمدون أيديهم سائلين وأغلبهم يحضرون معهم أطفالًا، يعلم الله من أين يأتوا به، ليشحذوا عليهم، وكان هذا شيئا تحترفه النساء.. لكن غالبا كان كل أولئك يذهبون لمكان ما مساء ونادرا ما تجد أحدهم راقدًا نائمًا في الشارع.. لكنني عندما مررت بجوار سور الترعة في هذه الساعة وجدت جسدا ملتحفا ملاءة سرير مخططة بالأبيض والأزرق ومكومًا عنده مطلقًا شخيرًا عاليًا غريبًا.. الأغرب أن الجسد يدل علي أنه لامرأة!

لم أر امرأة نائمة في الشارع في مدينتي من قبل أبدا تصور!

مررت بقربها وأنا أخطو برفق وبصوت منخفض جدا لحذائي علي الإسفلت المتشقق، الذي لم تألوا البلدية جهدا في نبشه كل شهر وإعادة رصفه، لكنها أحست بمروري فيما يبدو لأنها نهضت وأزاحت الملاءة عن رأسها وحولت وجهها إلي:

– حاجة لله يا ولدي إن شاء الله يسعدك!

مدت لي يدها فنظرت إلي وجهها للحظة.. وعلي الرغم من الضوء الخافت المنتشر إلا أنني رأيت شعيرات طويلة نابتة بوضوح في ذقنها.. إن لها لحية!

شعرت بالرعب وقبضت يدي التي كانت ممدودة إليها بجنيه فضة:

-شالله يسعدك!

لم أستطع أن أقرب يدي منها.. ارتعشت فسقط الجنيه مني علي الأرض.. تحولت بعيدا عنها وأخذت أجري وأنا لا أدرك ما أفعل بالضبط.. لكن ما أخافني حقا هو أنني سمعت صوتها في إثري.. سمعتها بوضوح وهي تضحك!

*********

عندما وصلت إلي البيت دققت الباب بسرعة ولهفة.. سمعت صوت خطوات تتجه صوب الباب من الداخل ثم صوت الباب يسحب بقوة.. أخيرا ظهر لي وجه أخي مظهر علي الباب.. احتضنني وأخذ يقبلني ويسألني عن حالي.. صحا البيت كله علي أصواتنا وأتت أمي، التي كانت تتوضأ، لتلثمني وكذلك أخوتي.. سألت عن أبي فقالت لي أمي علي الفور:

– طلع نقلة يا ولدي، ربنا يرجعه بالسلامة!

كان أبي سائقا علي عربة نقل كبيرة يشارك فيها أحد أعمامي وشخص آخر:

– ربنا معاه يا رب!

دعوت له وأنا لا يزال قلبي يرتجف فرقا.. أحضرت لي أمي إفطارا فولا بالسمن وبصلا وعيش مصري (·) بايت:

-معلهش يا ولدي.. أصل لسه الطابونة مخبزوش.. وعيشنا خلص وهخبز النهاردة إن شاء الله!

أصلا أنا لم يكن لي شهية للأكل وكانت مسألة العيش البايت هذه أفضل حجة لي تبرر عدم رغبتي في الإفطار.. تناولت لقمة واحدة إرضاء للجماعة ثم تركتهم وذهبت إلي غرفتي وأنا أرد علي كلام أمي:

– ولا يهمك يا حاجة.. العيش أهو زي الفل!

أغلقت الباب علي وارتميت في الفراش بكامل ثيابي بعد أن وضعت حقيبتي، التي أفرغتها أمي من الثياب المحتاجة للغسل، بجوار السرير.. حاولت النوم لكنني ظللت مستيقظًا رغم تعبي حتى التاسعة صباحًا وأنا أتقلب في الفراش قلقًا متوترًا.. فقد كنت أشعر أن هناك شيء سيحدث!

*********

سمعت آذان يرطب الأنحاء من حولي ففتحت عيني.. كان الضوء قويا للغاية في الغرفة فأحسست بالنور يقضم شبكية عيني حينما فتحتهما.. كانت الغرفة خالية من حولي وبابها نصف مفتوح.. نهضت متثاقلا وخرجت إلي الصالة.. كانت شقيقتي منة الله تنزل السلم وفوق رأسها طبق كبير تراصت فوقه أرغفة الخبز الساخنة الطازجة:

– صباح الخير يا منة!

ردت علي باسمة وهي تطلب مساعدتي لإنزال الطبق الثقيل:

– قول مساء الخير الضهر بيأدن يا عم.. الله يسهلك إحنا مزروعين فوق السطوح بنخبز!

عاونتها في وضع الطبق علي الكنبة ثم تناولت رغيفا مستديرا كبيرا وقضمته بلهفة وجوع:

– الله! أدي العيش ولا بلاش.. مش تقوليلي بتاع الطابونة البايت!

ذهبت إلي الحمام.. اغتسلت وتوضأت ثم ذهبت إلي غرفتي.. صليت الصبح الذي فاتني وبعده الظهر ثم قررت الخروج من البيت.. ولسبب ما تذكرت فجأة المرأة ذات اللحية التي رأيتها وأنا قادم في الفجر!

قررت أن أذهب لأراها مرة أخري.. لسبب ما أثارني جدا رؤية كائن غريب كهذا يجمع بين صفات الذكر والأنثى في وقت واحد.. امرأة بلحية هذا شيء مثير للخيال فعلاً!

تمشيت حتى وصلت إلي الشوارع القريبة من محطة القطار وهناك عند السور وجدت تجمع هائل للناس منهم عدد من رجال الشرطة.. كانت الضجة والأصوات هائلة والارتباك كبيرا لدرجة تمنعك من فهم ما الذي حدث بالضبط.. رأيت عربة إسعاف واقفة وبجوارها أعداد من الناس تحيط بها وملاءة قماشية كبيرة يدفعها بعضهم ويجذبها البعض الأخر.. لم أفهم شيئًا مما يحدث!

أخيرا ظهر ضابط تبدو علي نظراته القوة فشخط في المواطنين المحتشدين فتفرق بعضهم بينما قلت الضجة الصادرة عن بعضهم الآخر:

– في أيه يا ولد عمي؟!

حادثت شابا طويلًا سقيمًا يبدو كطالب جامعي مثلي كان يقف تمامًا بقرب السور وينظر بلهفة إلي الترعة شبه الجافة خلفه:

– ده عيل أعوذ بالله لقيوه في الترعة!

– غرقان؟!

سألته وأنا أعرف الجواب جيدا فلا يخلو عام واحد في مدينتنا من غريق أو أكثر بسبب الكرة واللعب والعوم في الترعة وفي النيل أحيانا:

– لا غرقان أيه.. الترعة ناشفة سلامة النظر.. ده مقتول بعيد عنك!

شعرت بالرعب وسألته خائفًا:

-مقتول إزاي يعني؟!

رد علي وهو يشير إشارة قاطعة نحو رقبته:

– مدبوح بعيد عن السامعين يا رب! حد دبحه ورماه في الترعة ورا السور!

أصابني الاضطراب وأخذت أغذ الخطي مبتعدا عن مكان التجمع البشري.. ناسيًا تماما أمر السيدة ذات اللحية!

*********

علي الغداء لم يكن لأسرتي موضوع سوي شيئين اثنين:

-الأول هو موضوع السوس الذي يملأ دقيق التموين الذي تسلموه هذا الشهر.. -الثاني هو موضوع الطفل الذي وجدوه في الترعة.. بدأنا بموضوع الخبز لكن الآخر سرعان ما طغى عليه تمامًا:

– تلاقيه بس عيل أهله عليهم تار وحد غدر به ودبحه ورماه في الترعة!

كان ذلك رأي أختي منة التي أنهال عليها الجميع تسخيفًا وتقريعًا:

– بس يا بت يا هبلة أنت! التار مش بيتاخد من العيال والحريم يا ماما!

حازت أمي في الصف بجوار ابنتها لتدافع عنها وأجابت قائلة:

– والله يا ولدي الدنيا حالها أتقلب! ما يمكن صح زي ما بتقول أختك.. ده حتى العيال الصغيرة بيخطفوهم ولو ناسهم مدفعوش الفلوس اللي عايزينها بيدبحوهم.. ربنا يعافينا ويطلعنا منها علي خير يا رب!

التقطت أنا طرف الخيط لأنني أحسست أن التبرير المناسب قريب جدًا:

– هو فعلا ممكن عيل مخطوف صح ومدفعوش فديته.. كلام معقول والله!

لكن الكلام المعقول سرعان ما تبين أنه غير معقول حينما توصلوا لمعرفة اسم الغلام القتيل بعد قليل.. كان من نجع من النجوع القريبة، صغيرا في السابعة، ابنا لمزارع ثري ولم يكن مخطوفًا ولا علي أهله ثأر من أي نوع.. الغريب حقًا هو ما الذي أتي به إلي المدينة التي لم يأتي إليها بمفرده من قبل أبدا؟!

اشتعل المركز نارا عندنا بعد حادثة الطفل المذبوح.. أما أنا فقد اهتممت بالموضوع يوما واحدا ثم نسيت كل شيء وعدت أتذكر المرأة ذات اللحية.. بحثت علي الإنترنت طويلًا حتى عرفت في النهاية، من بين كل العك المتداخل الذي قرأته هنا وهناك، أنها لابد تعاني من حالة خنوثة أو شيء من هذا القبيل.. مر اليوم عاديًَا حتى موعد العشاء.. تعشينا وبعدها عرض علي أخي أن نخرج لنتمشى ونجلس في أي مكان لنشم الهواء..طبعا كنا ننتوي الذهاب إلي القهوة وهكذا لكننا لم نجرؤ علي قول ذلك أمام أمي.. وبمجرد أن غادرنا البيت حتى قلت لأخي ضاحكَا:

– تعالي هوريك حاجة عمرك ما شوفتها!

سألني وهو يغمز بعينه:

– هتوريني أيه يا نمس؟!

-واحدة ست.. طالع لها دقن!

ضحك عاليَا ولم يصدق.. لكننا عندما وصلنا لم نجد شيئا غير المتسولين العاديين، ومعظمهم من النساء، أما المرأة ذات اللحية فلا أثر لها هناك!

*********

في الفجر حدث هذا.. في الثالثة فجرا تقريبا.. سمعت صراخا خافتا يتردد في أذني!

فتحت عيني المثقلتين بالنعاس وتلفت حولي.. كانت غرفتي مظلمة وساكنة تمامًا.. قلت لنفسي:

-باينه كابوس يا واد.. أتخمد نام!

وفعلاً أغمضت عيني ثانية.. لكنني سرعان ما فتحتهما علي صوت الصرخة القوية يتردد في إذني مرة أخري:

– ما بدهاش بقي!

أزحت الغطاء عني وخرجت من الغرفة أتحسس طريقي في الظلام خارجًا.. لم أجد أحدا في الخارج مطلقًا.. اتجهت ناحية باب البيت وفتحته فتحة صغيرة وأخرجت منها وجهي لأطل علي الشارع الأسود الساكن في الخارج.. لا شيء للحظة.. وفجأة صرخة مروعة هائلة تتردد في جو الصباح المبكر الخامد مصحوبة ببكاء.. بكاء طفل متوسل غارق في الدموع!

ارتجفت.. ارتجفت بعنف.. وخطر ببالي.. نعم.. إنه صوت الطفل الذي وجوده ميتا بالأمس.. لابد أنه عفريته خرج يستنجد بالناس!

شعرت ببرودة شديدة وشيء يعتصر صدري بقوة.. أغلقت الباب ودخلت البيت وحسبت الأمر أنتهي!

لكن لا إنه لم ينتهي بعد.. ففي اليومين التاليين صرت أسمع صوت الصرخات المفزوعة عند الفجر.. بل صرت أصحو عليها حتى بدأت أعصابي تتحطم تماما.. وزاد من رعبي أن لا أحد غيري كان يسمعها أو يصدق بوجودها!

لكن وفي صبيحة اليوم الثالث عثروا علي الطفل الثاني مذبوحا في نفس المكان من الترعة الجافة!

انقلبت البلد رأسا علي عقب بعد اكتشاف الجريمة الثانية.. تجللت الشوارع بالفزع والرعب وتناثرت الشائعات والتفسيرات من كل اتجاه.. البعض كان يظن أنها عصابة تخطف الأطفال وتقتلهم.. ولكن لأي غرض؟!

كلا الطفلين لم يتم خطفهما ولا طلب فدية عليهما.. ليس علي عائلتيهما ثأر.. ولا تم انتزاع أي من أعضائهما ليقال أنها عصابة للتجارة في الأعضاء.. فلأي غرض قتلا وذبحا إذن؟!

لم يتبقي سوي تفسير واحد صدقته الأغلبية العظمي:

– ده مارد بسم الله الرحمن الرحيم بيقتل العيال!

أصابني سهم الله حين سمعت هذا الكلام لكنني لم أصدقه.. قبل أن آوي إلي فراشي في الليلة الثالثة كنت قد قررت أمرًا وعزمت عليه!

*********

(يتبع)

الخبز البلدي: الذي تنتجه المخابز يسمي في الصعيد (مصري) تمييزا له عن الخبز الصعيدي الشمسي .


* نقلا عن
(خنثى): قصة قصيرة من أدب الرعب - لأبعد مدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى