أحمد علبي - أحلام المثقفين..

لا يقتصر معنى الثقافة على الآداب والفنون، وإنما يمتد إلى التراث الاجتماعي والسلوك وإلى الزاد المعرفي العريض. الكتابي والشفهي. وفي الشفهي منه مكامن بديعة للحكمة والجمال.

لا نعني في حديثنا عن المثقفين فئة المتعلمين، لأن كل متعلم ليس بالضرورة مثقفاً، وإن كانت دائرة العلم والمعرفة هي التي يخرج من إطارها المثقفون طبعاً. فالمتعلم يقنع بزاده من المعارف والمعلومات والآراء، لكنها تبقى بين يديه حجارة مبعثرة، بيد أن المثقف هو الذي يحسن الإفادة منها، لأنه يتعامل معها على نحو نقديّ.

قد نلتقي بإنسان لم يلج معاهد العلم إلا قليلاً، ولم تستهوه الشهادات المؤطرة يزين بها - كما يفعل بعضهم - جدران منزله، ومع ذلك فهو يحفظ بكثرة لافتة المواويل والحكايات، وعنده زاد من الأمثال لا ينفد، ولديه لكل موقف قصّة يرويها وشاهد يستدعيه ومقطع ديني يسوقه ويتغنّى به. فهذا الإنسان مثقف بالفطرة والمطالعة، وموهبته هي المنجم الطبيعي الذي يستخرج منه لآلئه التلقائية. قد تسمّيها ثقافة شعبية، فليكن، ولكنها على أيّ حال ثقافة ملهمة للثقافة التقليدية ومكملة لها. ولا يفوتنا التنويه إلى أن الأدب يلعب ضمن مفهوم الثقافة دوراً شديد التميّز، فهو الباني العظيم للوعي الاجتماعي، ومربّي الأجيال على قيم الخير والجمال والفضيلة. ولهذا فمن الظلم ربما أن نتعامل مع الأدب بمجرد مفاهيم طبقية متزمتة، لأن الإبداع عمل إنساني كبير ويتصف بالديمومة. وهو أفعل في تشكل الوعي الاجتماعي من الكتب النظرية المفتقرة إلى الطراوة والنبض، ويكون قراء هذه الكتب النظرية عادة من النخب التي تنحو إلى التعمق والدراسة والإدراك، وبالتالي إلى التمرس بالمواقف المسئولة. ونكاد نقول، متحفظين، إن الروائع الأدبية تثير ربما النفوس وتحملها على التمرد والثورة بأكثر مما تفعل الكتب الفكرية.

الشجرة والغابة

إن مسئولية المثقف لعظيمة، فهو بحكم انتسابه إلى البنى الفوقية يكون دائماً على وعي حاد ومرهف بالمشاكل التي تعترض مسيرة مجتمعه، لأن من يرى الغابة في نظرة ثاقبة شمولية، ليس كمن يقتصر بصره على رؤية الشجرة ولا تنفذ بصيرته إلى ما يمتد وراءها من آفاق وأعماق. وإن حال بعض المتعلمين، في تعاطيهم، ربما الاضطراري، بالمعترك السياسي اللاهب الذي يجر إليه قسرا المواطنون كافة، لمثال ساطع على ما نذهب إليه. إن بعض هؤلاء المتعلمين يغرقون في معجن الأحداث اليومية، دون أن يعولوا في تحليلهم لمجريات الأمور على سند نظري وركائز ثابتة ومقاييس يأخذونها بالحسبان. ومن يفعل ذلك منقاد ذات يوم إلى الخيبة المرة، لأن السياسة، من غير فهم الخلافات المحتملة بكل جبهة، والظروف الذاتية التي تسيّر سلوك كل فريق، والعوامل الموضوعية التي تترك بصماتها على ردود الفعل عند الأطراف المختلفة على جانبي الصراع، بدون هذه الأمور كلها وغيرها وضرورة مراعاتها عند البحث تنقلب السياسة إلى لعبة صبيانية، في حين أنها لعبة المصائر في احتدام التناقضات وتصارعها بدون رحمة. وهكذا لا سياسة من غير ثقافة سياسية، ومن ليس مثقفا من السياسيين، والقياديين منهم بوجه خاص، هو بالتأكيد سياسي فاشل على نحو مزدوج، لأن السياسة علم، وهي تغتني بالثقافة، وبواسطتها يزداد السياسي معرفة بالناس ومتاعبهم وآمالهم.

رأسمال المثقفين

على أي حال إذا كان تعامل المثقف مع هموم مجتمعه يتسم بمسعى إلى الإحاطة والشمولية فهو واقع، لا محالة، في ورطة المثالية، لأنه ينطلق دائماً من موقع نقدي، ولأن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يكون البتة شاهد زور على مجتمعه فيرى ولا يرى. كما أن المثقف الحقيقي هو الناقض لأيديولوجيا مجتمعه المهيمنة، وبالتالي فإن تطلعه المستقبلي يصطدم بالصعاب والعقبات، وكأنها الألغام . والسياسي المحنّك خبير في فك الألغام، في حين أن المثقف جانح إلى تفجيرها. وتتأتى مثالية المثقفين لأنهم لا يملكون ربما إلا أن يحلموا. فهم ليسوا بقادة عسكريين أو اقتصاديين أو نقابيين، وإن منصة التقرير ليست في حوزتهم. ينضوون تحت لواء هذه الطبقة أو تلك، ويستنبطون لهذه أو تلك من الطبقات الصاعدة، لكن السلطة السياسية ليست لهم. لهذا تراهم يهندسون مدن المستقبل وتقذف بهم أخلاقياتهم وراء الأسوار، وتحملهم مناقبيتهم على موقف ناقد صارم تجاه طبقتهم نفسها أو تلك التي اعتنقوا أفكارها في عملية تجاوز. وبين الحاضر والحلم، يمسي المثقف وتراً مشدوداً تتقطع نياطه أملاً وأسفاً، وذلك أن الإقرار بصوابية الواقع وموضوعية الهزيمة ليس مهنة يتعاطاها المثقف، وإن حكمة الجدود المستكينة ليست من أحماله الثقافية أو تكوينه الفكري، ولا يمكن بأي حال أن يتعامل مع التراث إلا تعاملاً ديناميكيا مستقبلياً.

على أنه، مهما كان المنزع الأخلاقي لدى المثقف شديداً، فلا يملك إلا أن يسترشد بقوانين المجتمع والعلم والتاريخ. والمهماز المناقبي حاجة حياتية لكل مثقف، لئلا يسقط في وهدة الانتهازية، على أن القوانين، بحتميتها أو منطقيتها، تحمي المثقف من عدم الانجراف وراء الأوهام النخبوية، أو أن تلحقه عدوى اليسارية المفرطة. ففي الحالة الأولى يتصور نفسه سلطة آمرة، تقود المجتمع إلى مشارق النور، غير أنها سلطة مبعدة مضطهدة وعبقرية مضيعة مهدورة. أما في حالة مرض الطفولة اليساري فالمثقف يحارب بسيف الجملة الثورية في عملية بتر عشواء مع ميكانيك تطور القوانين التي تتحكم بنا ولا نتحكم بها، إلا بمقدار مراعاتنا لضرورتها وخصوصيتها.

إن كل طبقة في التاريخ تهيئ الظروف وتمهد الضرورات لبروز ممثليها الفكريين. ويمكن القول إن البورجوازية أنتجت فلاسفتها، وفق ظروف اجتماعية وحضارية ملائمة. وكان مثقفو البورجوازية حريصين على تعميم الدعوة إلى العقل في وجه الكنيسة والإقطاع، وذلك لمقارعة القداسة المفتعلة من قبل الكنيسة المسيطرة في تصورها للعالم، تبعا لمفاهيم وقوانين تداخلها الأساطير ويشيع فيها التأليه الموضوع في خدمة أغراض الكنيسة الدنيوية والطبقية. لقد غدت الكنيسة مؤسسة دينية وزمنية، وكانت المالكة الكبرى لأخصب الأراضي في أوربا. إن الدعوة إلى العقلنة والعلمنة هي محطة تاريخية في صراع البورجوازية ضد الإقطاع والكنيسة، ولئن كثر الكلام، في أيامنا، عن الحداثة والعصرنة والعقلنة والعلمنة فينبغي ألا يظل الكلام يدور في دوامة العموميات. فالدعوة مشكورة، لكن يتوجب أن تترافق بدعوة إلى التغيير الاجتماعي المحدد، الهادف بشكل خاص إلى خدمة الفئات المسحوقة. وعلى هذا فالمهم أن ينتقل المثقفون من "موظفين في البنى الفوقية "- على حد تعبير المفكر الإيطالي غرامشي- يلتزمون بالأيديولوجيا البورجوازية، إلى موظفين لدى الجماهير الواسعة، فيكافحون لنصرتها بمسئولية وتصوّف. وبهذا يعي المثقفون التناقضات الداخلية التي يغلفها القمع وأيديولوجيا الطبقة المهيمنة. وبالتالي يتحول المثقفون " بالقوة " إلى مثقفين حقيقيين " بالفعل "، ينعمون باستقلالية البحث والتفكير، ويتحسسون معنى الحرية الحميمة التي لا تنغصها العقد والتناقضات.

غُربة المثقف

في ظني أن المثقف الحقيقي يمكنه أن يفعل الكثير، وذلك لأمر بديهي، وإن يكون يغيب دائما في زحمة المعارك، وهو أن القلم الذي يحتشد فيه الفكر هو السلاح الدائم الذي لا يتوارى، فإن كانت البندقية هي القابلة لميلاد الأحداث التاريخية الكبرى، فالفكر ماثل حتى في البندقية نفسها، لأنها من بناته. وأي حزب يشرف على مخططات المستقبل يشحذ أولا أسلحته الفكرية، وعلى هدي هذه الأسلحة يمتشق، عند مفاصل التاريخ، بنادق الحسم والميلاد. يضاف إلى هذه البديهية أن المفهوم الشائع لدى كثير من المثقفين عن الفكر والثقافة مفهوم ضالّ، وكأن الثقافة ليست من نسيج هذا المجتمع، وكأن شجونها هي في المناخات العليا لعالم الفكر السحري! من الصواب أن فروعاً جّمة من التخصص والمعرفة تبتعد عن مجريات الحياة اليومية، وكأنها منبتّة الجذور عن مشاغل الناس ودينامية الحياة وحركة البشر. فإن عالماً في تاريخ الكنيسة القبطية، أو ميكانيك الحركة، أو الفن الفاطمي، وغيرها من عشرات التخصصات، قد يبدو صاحبها غريباً لدى أناس مجتمعه، وغريباً عن خضم الأحداث السياسية التي تجتاح المواطنين أجمعين. لكن هذه الغربة تحتاج إلى إيضاح. فلكل مواطن غربته الخاصة، بمعنى أن لكل إنسان في المجتمع همومه الذاتية المرتبطة بإشكالات مهنته وما يتولد عنها من مشاكل وتعقيدات وحلول. فإذا كان مطلوباً من الإنسان صاحب المهنة، بما فيها المهن التعليمية، أن يمارس عمله على نحو مبدع، فمن المفارقة أن مهنة المثقف، وخصوصاً العالم المتخصص، هي أن يفكر وينقب ويكتشف، وبعض التخصصات يقذف به بعيداً في أغوار الماضي، فيكاد يبدو أحياناً منسلخاً عن حاضره في رحلة عبر أسرار المادة والطبيعة والتاريخ والإنسان. لكن هذه الغربة هي أحياناً من طبيعة مهنة المثقف ومجال تخصصه، ومن الحق أنها ربما تبعده، الفينة بعد الفينة، عن تفاعلات الحاضر اليومية وتفاصيلها السياسية والاجتماعية والمعيشية، بيد أنها لا تحول بينه وبين رؤية حركة الواقع الجدلية في شموليتها ومسارها السياسي العام وآفاقها المنتظرة.

التكوين الثقافي - الحضاري

إن مسئولية المثقف في العالم الثالث جليلة، شاقة. وذلك أن المثقف في الغرب يواجه أرضاً ممهدة نسبياً، من طرائق في البحث، ومعاهد للتخصص، ومراجع ملأى بالحقائق والإحصاءات والموحيات. ثم إن الأجواء الثقافية للمجتمع تسهم هناك في بلورة الشخصية الثقافية للفرد والجماعة. في حين أن المثقف العربي، سواء تم تكوينه جامعياً أو شخصياً، يشكو من خلل في التكوين نفسه، وذلك أن التكوين الثقافي - الحضاري، التلقائي والطبيعي، يفتقده في حقيقة تكوينه. من الصحيح أن الحضارة تنصرف خصوصاً إلى الجانب الماديّ وإلى الرفاه والتقدم التقني، ولكننا لا نخال مجتمعاً متحضراً، متمتعاً بالوسائل المادية الراقية والأساليب الإنتاجية المتفوقة، وهو لا يعيش حياة روحية متفتحة وفنية زاهرة. فلا تنتظر من إنسان يحيا في طور البداوة ويرتحل من مكان إلى آخر معرفة موغلة، وبصيرة نفّاذة، وذوقاً مترفا، وملكة نقدية، ووعياً متقداً، وغيرها من الصفات التي تلازم الثقافة. إن أنماط الإنتاج في المجتمع تحدد بشكل متعاظم أنماط ثقافته وهويته الروحية. فالبرلمان والموسيقى السيمفونية والاكتشافات العلمية، وغيرها من المظاهر المتباينة، لم يكن بوسعها أن تزدهر في غير المجتمعات البورجوازية التي عولت على نمط في الإنتاج يسمح بتهيئة الظروف الموضوعية لنشوء أمثال تلك المظاهر. وهل تظنن أن الديمقراطية الحقة ممكنة في مجتمع العبودية، أو أن موسيقيا كبتهوفن يتيسر ظهوره في عصر الإقطاع، أو أن المضادات الحيوية أو الباطون المسلح أو الراديو كان من الميسور اكتشافها في مرحلة المشاعية ؟ فالترابط بين الحضارة والثقافة يكاد يكون حتميا لدى منتجيها. أما نحن فقوم نستهلك مايصنعه الآخرون، وليس لنا مشاركة إيجابية فعالة في بناء صرح الحضارة الحديثة. ومن هنا هذه المفارقة التي تحياها بعض مجتمعاتنا: إنها تستورد أعلى التقنيات، وتعيش بعض شرائح هذه المجتمعات رفاهاً مادياً يكاد يكون مذهلاً، ولكننا نفتقر، في غالب الأحيان، إلى الثقافة الغربية التي فكرت وأنتجت وأبدعت، وإلى منهجها الفكري الذي قاد إلى إنتاج الروائع في الفن والأدب والفلسفة والعلم.

متاعب المثقف العربي

إن المثقف ليس بمعزل عن علاقات الإنتاج في المجتمع، ولا عن الحراك الطبقي وتفاوت درجاته ومراحله التاريخية. وربما ساغ القول إن المثقف أوفر الناس رهافة ووعياً وتحسساً ومصلحة بالتقدم الاجتماعي، فإن أجمل "اليوتوبيات" هي من نسج أحلام المثقفين وصبواتهم المثالية، لذلك فإن دور ، المثقف، ولا غرو، يتباين من مجتمع متطور يأخذ بأفانين النضج الحضاري، عن مجتمع عربي مازال شبه متخلف. ولماذا نبعد، فالجامعة في مفهومها الإنتاجي الذي يربط العلم بحاجيات المجتمع وبعجلة الصناعة، ما برحت إلى حد كبير شبه مفقودة في معظم مجتمعاتنا العربية. إننا نمتلك صروحا تعوّل على الدراسة النظرية، وتخرج في الغالب أفواجاً من الموظفين أو من العاطلين عن العمل. وهكذا يصح القول إن دور المثقف في العالم الثالث يبدو مختلفا عن دوره في الغرب مثلاً، لأن مساهمته في الصراع الاجتماعي، في ضوء ظروف النضال السياسي القاهرة والمفروضة، تحتم عليه أن يكون على تماس مباشر بالمشاكل الثقافية والاجتماعية. وأرض البحث، في كثير من الهموم الوطنية تكاد تكون بوراً أو مهملة، والمثقفون الباحثون قلة، والمعطيات العلمية الضرورية شحيحة، ومراكز البحث مازالت في الغالب أمنيات جميلة. في حين أن المثقف الأوربي قطع مراحل عدة ومهد مسالك جمة، فسبيله إلى البحث العلمي لا ينطلق، شأننا، من الصفر أو يكاد. ولهذا كله يتبدى موقع المثقف الأوربي، ظاهرياً، وكأنه خارج لعبة التناقضات الطبقية، لأن المجتمع البورجوازي قد أشعره نوعاً ما باستقلاليته وبتخصصه الفريد ومناخه الفكري الخاص. على أن هذا الوهم الزائف الذي غذاه في الغرب باحثون، من أمثال هيس ومانهايم، يتبدد شعاعاً في محيطنا، وذلك لأسباب منطقية، منها أن الاستقرار النسبي، على الصعد الاجتماعية والفردية، المادية والروحية، والذي يستشعره المثقف الأوربي، ليس وارداً عندنا إلا فيما ندر وعلى نحو استثنائي. وهذا الاستقرار النسبي يتيح للمثقف الأوربي، في إطار تقدمه التقني، مزية الانصراف إلى ميادين التخصص الدقيقة والضيقة، العلمية والإنسانية، في حين أن مشاكلنا العويصة، على أنواعها، تستلنا، راضين أو مكرهين، من واحة الكتب والأوراق والمختبرات، إلى معاركة هذه المشاكل أيضاً، بحيث يبدو الترف الفكري، الذي يتمتع به المثقف الأوربي على نحو ما، فاكهة محرمة، حالياً، على المثقف العربي.
[SIZE=3]

أحمد علبي
فبراير 1993[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى