أدب مغربي قديم الكبير الداديسي - الشاعر المغربي مجول عند الجمهور المغربي

قبل الشروع في كتابة هذه الأسطر حاولت التأكد من هذه الفرضية ، طلبت من تلامذتي في مستوى السنة الثانية من التعليم الثانوي التأهيلي (الباكالوريا) في ستة أقسام ( ثلاثة أدب وثلاثة علوم ) أسماء لشعراء مشارقة جاهليين إسلاميين عباسيين محدثين ... فانهالت علي الأسماء من كل حدب وصوب

لكن كم كانت خيبتي كبيرة عندما طلبت منهم أسماء لشعراء مغاربة ( مرابطين موحدين مرينيين سعديين أو محدثين ..) عندما عجزوا عن ذكر اسم واحد لشاعر مغربي على امتداد تاريخ الأدب المغربي ومن التلاميذ من اعتبر السؤال تعجيزيا وكادت الصدمة تكون قاتلة عندما وجه السؤال لعدد من أساتذة الشعب العلمية والتقنية ، فارتد لي السؤال خاسئا وهو حسير ومن هؤلاء الأساتذة من رد علي بسؤال مفجع قائلا : وهل كان في المغرب فعلا شعر وشعراء في العصر المرابطي والموحدي والمريني ...؟ وهل لا زال المغاربة يكتبون الشعر إلى اليوم ؟؟ وإن كانوا يكتبونه فلمن يكتبون ..؟

قد يتفاجؤ بعض القراء المغاربة مثلي لهذه الأجوبة . وقد تبدو للبعض الآخر عادية في زمن الجزر والرداءة .. لذلك آثرنا كتابة هذه السلسة من المقالات حول الهوية المغربية والإبداع .

صحيح ان الشاعر المغربي القديم مجهول ونكرة لدى معظم المغاربة ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن موجودا، كما لا يعني أنه لم يكن لدينا شعراء . فأي إنسان له اطلاع بسيط على تاريخ الأدب المغربي يمكنه ذكر عشرات الأسماء لشعراء مغاربة قدماء ، لا تقل شعريتهم وإبداعهم الفني عن شعراء المشرق كأبي تمام والبحتري والمتنبي وامرئ القيس والمعري وغيرهم من الشعراء المشارقة... بل لقد شهد المغرب حلقات وندوات شعرية لم يشهد العالم العربي لها مثيلا وربما أنتج المغرب في لحظات قصيرة ما لم ينتجه الشرق في مراحل طويلة . ولتوضيح ذلك يكفي الإطلاع على بعض المصادر ك(تاريخ المن بالإمامة ) لابن صاحب الصلاة و(البيان المُغرب)لابن عذاري المراكشي وكتاب نفح الطيب للمقري وغير هذه المصادر كثير التي احتوت ألاف الأبيات الشعرية خلدت لأحداث تاريخية متنوعة ... ليعرف المرء بعض مظاهر الإبداع الشعري المغربي خاصة في العصر الموحدي الذي تنبه فيه الموحدون للوظيفة التي يمكن أن يلعبها الشاعر سواء في التعريف بمذهبهم أو في إطار حروبهم مع المسيحيين أو الخارجين عن دعوتهم من المسلمين ... لذلك شجعوا الشعر والشعراء فلمعت في سماء الإبداع الشعري أسماء لشعراء كبار تجاوزت شهرتهم حدود المغرب والأندلس كابن حبوس وأبي العباس الجراوي ، وابن جبير ابي بكر بن المنخل ، الرصافي ، ابن حربون ،صفوان بن إدريس ،ابن خبازة ، المرتضى الموحدي ،ابن الربيع سليمان ، أحمد بن شكيب ....

ولأبراز أهمية الشعر وكثرة الانتاج الشعري في العصر الموحدي يكفي الوقوف عند هذا الخبر الذي أورده كل صاحب (نفح الطيب) وصاحب (المُعجب ) وصاحب (البيان المغرب).. ومفاده أن أبا جعفر المنصور الخليفة الموحدي أقام ندوة عقب الانتصار في معركة الأرك وجاءه الشعراء مادحين مهنئين فقرأ الكثير منهم قصائده ولم يتمكن كل الشعراء من إلقاء قصائدهم فأضحى كل شاعر يلقي البيت أو البيتين ويضع قصيدته أمام الخليفة (( وانتهت رقاع القصائد إلى أن حالت بين الخليفة ومن أمامه ))

نعود لنذكر أن الهدف من هذا المقال ليس هو البحث في تاريخ الشعر المغربي ولكن لمناقشة التساؤل المطروح في البداية : لماذا يجهل القارئ المغربي هذا الكم الهائل من الشعر المغربي ويحفظ عن ظهر قلب أسماء شعراء المشرق وبعض أشعارهم ؟؟؟

أما إذا انتقلنا إلى العصر الحديث والفترة المعاصرة فالهوة بين الشعر الإنسان المغربي ستزداد اتساعا وبونا رغم كون الشاعر المغربي الحديث يلقى الدعم من بعض الوزارات ويغرق السوق بدواوين لا يكاد يطالعها أحد فما السر في عجز الشاعر المغربي في الوصول إلى قرائه ؟؟؟

الأكيد أننا لو حاولنا البحث عن الأسباب لاختلقنا ما لا يعد ولا يحصى منها ، ولربما ظلمنا القارئ أو ألقينا اللوم على العصر والأسهل أن نحمل المسؤولية للشعراء واعتبرناهم مجرد متتطفلين على الشعر وأن عددا منهم يمكن أن يوصفوا بأي شيئ إلا صفة شاعر ..إضافة إلى عجز الكثير من الشعراء على انتشال القارئ المغربي من تلك الصورة التقليدية للشعر وصورة الأطلال والجمل والأغراض التقليدية من مدح ورثاء وغزل ...

ناهيك عن عجز الشاعر المغربي في طرق مواضيع قريبة من اهتمام الإنسان المغربي ومعيشه اليومي ... فالشاعر غالبا ما استقر في برجه العاجي بعيدا عن نبض الشارع .. لقد كان الشاعر القديم صوت الجماعة ولسان القبيلة في السلم والحرب والمدافع عنها في اللسان والسنان فيما أصبح الشاعر المغربي بعيدا عن الحراك الذي يعرفه الشارع . وحتى إن عالج بعض القضايا الاجتماعية أوغل في الغموض وكوب الانزياحات الغريبة في مجتمع أغلب أفراده أميون

ينظاف إلى ذلك ضعف نسبة المطالعة والقراءة في المجتمع المغربي وضعف قراءة الشعر خاصة دون نسيان ضعف النقد الشعري وعدم مواكبته للإنتاج الشعري المغربي . فنقاد الشعر على قلتهم يقدمونه للقراء بمناهج غربية جديدة مما أحدث فجوة بين الشعر والقارئ المغربي الذي كان يعتمد البلاغة و العروض والنحو والصرف .... مقاييس لفهم الشعر وتذوقه ( الغريب أن معظم القراء غدوا لا يهتمون بأي علم من علوم اللغة فمعظم تلاميذ الشعبة الأدبية باكالوريا لا يعرفون أي شاعر مغربي على امتداد تاريخ المغرب وبالأحرى تذوق شعره ..)

أننا في حاجة ماسة لعصر تنوير ومفكرين ينورون النشء ويعرفونه بتاريخه الطريقة التي قرّب بها شوقي ضيف وطه حسين وحنا الفاخوري ..العرب من الانتاج الشعري القديم . وإلا أصبح الشعر – الذي يفترض فيه أن يكون أحد ركائز هويتنا الثقافية – غريبا عنا في عصر تهيمن فيه الصورة ويتراجع الكتاب - والشعر جزء منه – نحو الظل وربما نحو االانقراض

بقلم ذ. الكبير الداديسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى