محمد علام - معاناة الماضي ونبوءة المستقبل

على مر التاريخ تصعد نقطة الصراع على السلطة كرسم بياني إلى ذروة التناحر وعدم الاستقرار، وتتراجع إلى الركود والاعتياد وعدم التجديد. وقد قدم الماركسيون أدوات كثيرة لقراءة هذا الصراع، تتركز معظمها في صراع الطبقات الاجتماعية، من اختلاف كل طبقة في أدواتها الإنتاجية وطبيعة مركزها من الثروة، ولعل جدلية أدوات الإنتاج والسلطة هي مفتاح قراءة التاريخ عند الماركسيين.

لكننا في عرض الرقص التعبيري الروسي “S – quark” نجد أنفسنا أمام سلسلة بشرية من نحو عشرين ممثلا وممثلة، تتشابك الأيدي بالأيدي ولا نلحظ تمايزا جندريا أو اجتماعيا صريحا، لكن الملبس رغم حيادية ألوانه السوداء والذهبية والفضية، يشير إلى حقبة زمنية ما، قد تعود للقرون الوسطى دون أن نميز مكانا بعينه تدور فيه الأحداث. يبدأ العرض بتفسخ هذه السلسلة الاجتماعية البشرية التي ظهر بها الممثلون في البداية إلى فريقين، فعن طريق الطرق بالأقدام على الأرض، والإشارة إلى تكميم الفم بالكفين، والتلويح بالقبضات المضمومة إلى أعلى والصراخ قبل التحرك إلى أحد الفريقين، يكون ذلك إعلاما بالقهر وإيذانا بالتمرد والحرب.

هنا يتم تقديم نتائج ممارسات التسلط والقهر، في أذونات لصرف العنف، والكراهية، والقتل.. هذه الأذونات ذريعة كل فرد دون تمايز اجتماعي محدد للانطلاق ناحية تفسيخ هذا التماسك وتحزيب العناصر التي تلح ذواتها المتحفزة للعنف ضد العناصر الأقل تحفزا، وربما أراد العرض أن يقدم الصراع على السلطة كصراع اجتماعي بالأساس وليس صراعا اقتصاديا كما أشارت كتابات الماركسيين سابقا، بل هو صراع الكينونة والذات.

ولا يتم فهم الصراع من المجتمع فحسب، بل إن فهم المجتمع يقوم من تحديد طبيعة الصراع، فالبطل الذي ظهر في منتصف المسرح ونجح في إخماد الحرب بين الفريقين وركع الجميع تحت قدميه يتمسحون جسده بأيديهم وأذرعهم؛ يموت نتيجة فتنة ما أو خيانة، نحن فقط نراه يسقط ميتا بعد ظهور شخص ما وراءه، حينها تمتد الأيدي من كلا الفريقين فيحملونه ويضعونه في قفص على يسار المسرح مما يجعله شخصية إشكالية. فكرة ماتت ظاهريا لكنها عالقة في ذاكرتنا السحيقة، محاطة بأسوار من الرثاء والتقديس في عيون المحكومين، والعبرة والتحذير في عيون الحكام.
ربما نعتقد عدم وجود بناء درامي للمسرحية القائمة على الرقص التعبيري. إلا أن الخصوصية التي تنتمي لها “S – quark” تطلب حساسية خاصة عند التعامل معها، فكل مسرحية تقدم حكاية ما، مهما اختلفنا حول تعريفات الحكاية المتعددة وأيا كانت طبيعتها، فإن كان منتهى المعنى في المسرحية المعتادة كامن في الحوار الكلامي، فإن منتهى المعنى في المسرحية المعتمدة على الرقص التعبيري كامن في الكيروجرافيا والسينوغرافيا معا، فعن طريق الإيماءات بالأيدي والأقدام ينشأ الحوار المسرحي. الكلام لغة، والرقص أيضا لغة، تتعدى الحدود والاعتبارات الثقافية. يخاطب - الرقص - اللاوعي قبل الوعي ويترك أثره المباشر في الوجدان.

هل نستطيع أن نحدد أين تدور الأحداث؟ إن التقطيع والتركيب المستمر للحركة في سياق درامي – تشكيلي، يجعل الحركة في حد ذاتها نوعا من أدوات قطع وتنويع المكان كمساحة، فهي تقدمه لنا في حالة متغيرة باستمرار تبعا للحركة فيه، فتارة يأخذ الرقص تيمة الرقص البدائي ونشعر أننا في غابة أو في براح يحياه إنسان ما قبل الحضارة، وتارة تأتي تشكيلات الحركة مستمدة من تيمة الرقص الطقوسي فنشعر أننا في حلقة من حلقات التضرع للآلهة على طريقة إنسان القرون الوسطى، ومن ثم تعمل الحركة التعبيرية عمل الفواصل المكانية التي تقوم بتجزئة وحدة المكان الصامت الساكن، من أجل إعادة تشكيله دراميا وجماليا، وتعمل أيضا على إذابة فواصل الزمن وجعل المشاهد يشعر أنه سقط في ثقب من الثقوب السوداء التي تحدث عنها أينشتاين.

المجتمعات التي عانت الاضطهاد والقهر وشهدت الكثير من مظاهر العنف وصل بها إلى الحرب الأهلية؛ كيف يكون شعورها بذواتها؟ ما الذي يجعلها في حالة دائمة للبحث عن بطل؟ كيف تأتي (السلطة) للتاريخ كاستحضار للماضي باعتباره (الفعل) مقابل حالة الاغتراب والشعور بالتقزم كحالة من السكون أو (اللا فعل)؟

إن الذات في المفهوم الاجتماعي مركز القيم ومنتجع الاحتياجات الفكرية للتقدم والبناء الحضاري، وعندما تتصدع هذه الذات فإن الحضارة كلها في خلل. فالكف التي تصد الأخطار عندما يتم إشهارها أمام الجمهور أكثر من مرة خلال العرض، تكون رسالة مجردة تشير إلى ذات مهشمة أو تحذر من طغيان الذات. كذلك غلبة الإضاءة الحمراء على خشبة العرض وضعت الشخوص في موضع الإدانة، والضوء الأبيض الذي يعبر من الداخل مصوبا للجمهور طوال العرض قد مثل حبل الوصال بين وجدان من هم في الخارج ومن هم في الداخل فجعل المشاهد في حالة أسر عاطفي لما يدور أمامه.

ثمة أمور أخرى أيضا تقود المجتمعات على سلم الرقي أو الهبوط، فعلى أقصى الضفة الأخرى من الذات القيمية، توجد الغرائز. والمرأة عندما تومئ برأسها فهي تعبر عن الغواية، ونلاحظ التشكيل في بداية المسرحية حيث الرجال في تشكيلاتهم يتصدرون النساء. لكن عندما تمتد يد أحد الراقصين إلى فتاته ويضمها له بقوة فهي قد أصبحت زوجته وعندما تدير رأسها إلى الخلف لتومئ بالغواية لرجل آخر فهنا تكون الخيانة حاضرة، هكذا مع كل ثنائي حتى يرتمي خمسة رجال قتلى نتيجة عراكهم مع بعضهم. حينها تقوم كل امرأة بالزحف فوق جسد رجلها؛ فيستيفظ! فهي تميت وتحيي، والمرأة في التاريخ إلهة وملكة وإن توارت عن ممارسة السلطة المباشرة فهي في الكواليس الغريزة التي تسيطر ولا يمكن مقاومة رغباتها فأبيدت بسببها ممالك ونشبت حروب على شرفها امتدت لسنوات وسنوات من الاقتتال والتذبيح.

ونرى إحدى الراقصات تزحف على بطنها زحفا حثيثا أمام رجلها ثم بمجرد أن تومئ بقدمها؛ فيتبعها، فهي بذلك تسترد السلطة وتتبدل الأدوار وتعلن نبوءة على أساسها يقفن النساء في الصدارة والرجال خلفهن، هنا تكون الاحتياجات الإنسانية محور الصراع على السلطة كصراع إنساني، حينها يخرج الماضي (البطل) من سجنه ليتأمل هذا المستقبل (المرأة) ينتزعها من شرنقتها ويرقصان رقصة الاتحاد.

إن التحديثات البسيطة التي أدخلها Alexander Slizounov مخرج العرض على لوحة Wassily Kandinsky في إطار السيمفونية البديعة للموسيقار Stas Namine تجعلنا في حذر ونحن نقدم قراءة تعبيرية للأشكال الهندسية (المثلث، الدائرة، المستطيل) التي استخدمت كدروع أثناء الحرب، ثم تم تعليقها أمامنا طوال العرض، فكل فريق ثبت أمامنا مثلثا مقلوبا، والمثلثان المتجاوران وحدة وإخاء، ومقلوبان ربما لإعلامنا أن الطبقة الدنيا هي التي تتحدث الآن وهذه هي حكايتها. والمثلث عند (ماسلو) هو هرم الاحتياجات الإنسانية؛ في قمته الذات وفي قاعه الغريزة، وعندما تكون الذات إلى الأسفل (رأس المثلث) فالغريزة هي التي تحكم وتسيطر. أما على يمين المسرح في بؤرة بعيدة وضعت دائرة ويقطعها مثلث رأسه مشهرة لأعلى مما يضع في نفس المتلقي شعورا بالقوة والتحفز، ولعل الدائرة تعبير عن الحماية فهي أيضا قد تكون تعبيرا عن الزمن السرمدي؛ أي أن هذه الحكاية حدثت وستحدث في كل مكان وكل زمان.



* مقال عن العرض الروسي (إس - كوارك) بالمهرجان التجريبي، في العدد الجديد من جريدة مسرحنا..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى