محمد السقفاتي - فتاة المصادفات الغريبة.. قصة قصيرة

لم تكن هذه المرة الأولى التي التقيها وجها لوجه. فقد سبق لي أن صادفتها في محطة الباص، وعمرها آنئذ لم يتعد سنتين تقريبا. كان ذلك حينما وقعت علي نظراتها الجميلة المسكونة ببراءة طفولة صافية، وكأنما ألفت رؤيتي. اقتربت مني بحركات طفل يتعلم للتو خطواته الأولى. أمسكت بسروالي ولفت ذراعيها الصغيرتين حول ساقي بشدة، وطبعت قبلا على العلو الذي تبلغه قامتها القصيرة، ثم هرولت نحو المرأة الشابة التي ظننت للوهلة الأولى بأنها أمها، مرددة وهي تمسك بتلابيب معطفها وتسحبها محاولة إثارة انتباها: بابا. بابا... بابا


خفق قلبي واعترتني حيرة كبيرة جراء ذلك، وحاولت جاهدا البحث عن إجابات صريحة على وجه السيدة التي كانت حانية رأسها ومنشغلة بالبحث في حقيبة يدها عن شيء ما، قبل أن تحملها بين ذراعيها وتصعد إلى داخل الحافلة، ملوحة بيدها كإشارة تحية أو وداع، وبعفوية تامة رفعت يدي أيضا، مستبعدا أن تكون تلك التحية موجهة لي أصلا، فيما بقيت نظراتي مصوبة نحو الطفلة التي خمنت في أنها تنادي أمها ببابا أو أبي، وهذا ليس بالمستغرب في ظل التنوع الكبير الذي تعرفه العلاقات والارتباطات والانفصامات العائلية. فهناك الكثير من الأطفال الذين يترعرعون خارج أسرهم، أو ينشأون داخل أسر نووية، ويحارون في التمييز بين أبويهم وباقي ذويهم، فينادونهم معا أمي وأبي أو بأسمائهم المجردة، أو يطلقون أحيانا اسم الأب على الأم الناشطة المهيمنة، مقابل الأم الخنوع المنقادة داخل العائلات البطريركية، أو ربما تقصدني أنا بسبب تشابه ما، خاصة أننا غالبا ما ننجذب برباط سري تجاه شخص معين لأنه يشترك في ملامحه مع احد من أقاربنا أو أصدقائنا المقربين، لكنني طردت كل الأفكار والاحتمالات والتهيؤات من مخيلتي، تحت ذريعة أن طفلا في مثل هذه المرحلة العمرية لا يجب أن نأخذ كلامه وتصرفاته على محمل الجد خاصة في لقاء عابر كهذا، واكتفيت فقط في التفكير بهذا النوع الجميل من الأطفال الأبرياء البشوشين الذين يبعثون فجأة من خلال سجوف تعاستنا وشقائنا واوصابنا لينشروا نوعا من الفرح والأمل والسكينة حولنا


نسيت أمر هذه الواقعة وانمحت تماما في خضم التقلبات الزمنية والانشغالات المعيشية المؤرقة، إلا أن رأيتها مرة أخرى في المحطة نفسها، وهي تنزل من الحافلة بنفس ملامحها، وجسدها الذي ازداد نضجا، وروحها المسكونة بحيوية وطيبة بالغة. وما إن أبصرتني حتى انفرجت أساريرها، وركضت نحوي جذلى، وارتمت في حضني مرددة

سَيْلين.. سَيْلين.. اسمي سَيْلين

سَيْلين؟ هذا اسمك؟ انه اسم رائع وجميل

سألتني عن اسمي وعن أبنائي وعددهم، لم أقل لها اسمي كما هو معمول به في مثل هذه المواقف العابرة، واكتفيت بمجاملتها، فيما كانت إجابتي عن أبنائي مزيجا من الجد والهزل، ثم شدني تجاهها شعور غامض بالعطف جعلني أضمها إلي، وأربت بحنان بالغ على شعرها المنسدل بعناية على كتفيها مشكلا هالة حول وجهها الملائكي الذي أصبح أكثر صفاء وعذوبة وملاحة، قبل أن أقفز بسرعة درجات الباص الذي تأهب للانطلاق، تحت نظرات المرأة التي ابتسمت ولوحت بإشارة خفيفة من يدها


مضت مدة طويلة على اللقاء الثاني، وتلاشت ملامح البنت كليا من ذاكرتي، لكن ثمة أشياء ما جعلت من إحدى زيارتي لبيت والدي بمناسبة احد الأعياد تحدث في نفسي أمرا غريبا واستثنائيا، فقد وجدت جميع أخوتي وأخواتي متحلقين حول خوان الطعام، واكتفيت بالتحية لأن من عاداتنا أن لا نسلم بالأيدي أثناء الأكل، وخلال جلوسي استرعى انتباهي من بين الحضور وجود فتاة سمراء أنيقة، وسيدة فيها بقية من ملاحة تخفي وراء ملامحها طيف علاقة حميمية ربطتنا لأشهر عدة، لتنقطع فجأة بعد التحاقي بإحدى الوظائف بمدينة بعيدة، اعترتني حيرة عظيمة وارتباك كبير. أما الفتاة فما إن رأتني حتى أزهرت شفتاها عن ابتسامة أليفة وودودة، وحاولت القيام من وسط الحاضرين، لكن السيدة منعتها بلكزة خفيفة من مرفقها

استبعدت أن تكون هذه البنت هي ذاتها صبية وطفلة الباص المرحة، التي صادفتها مرتين في المحطة، إلا أن انتشلتني من حيرتي موجهة الكلام إلي

- نحن نعرف بعضنا من قبل.. أليس كذلك؟

وقبل إن أرد، رمقني أبي بنظرة غريبة وهو يسألني باللغة الأمازيغية:

- إذن أنتما تعرفان بعضكما من قبل.. لم لم تخبرنا بذلك؟

بما أخبركم؟ لا اعرف شيئا

عقبت على سؤاله بينما تفاقمت حيرتي وتلعثم لساني، حين سمعت الفتاة تخاطبه

- "جدي.. جدي.."

رد ابي بهولندية ركيكة:

- نعم يا سيلين

ليتابع موجها كلامه الي بالأمازيغية:

- أنت تسمع ما قالته سيلين جيدا.. لقد صرت جدا دون أن تعلم، ولهذا الأمر استدعينا كل أفراد العائلة للاحتفال بهذا الحدث الجميل

لم افهم شيئا من كلامه، ولم أجد ما أقوله، فالمفاجأة ألجمت لساني، استدرت وسط حيرتي الغامرة إلى الأم علني استشف في اعماق عينيها جوابا شافيا يتنشلني من حيرتي، لكن حيرتها كانت أدهى.. ارتبكت وتضرج وجهها خجلا، وأخفته بوشاحها، وغضت بصرها ثم في ارتباك باد نادت ابنتها ملحة عليها في الانصراف فيما ردت سَيْلين:

- سنذهب يا أمي... لكن بعد التعرف على كل أفراد عائلتي

وقبل ان استفيق من حيرتي، شدني منظرها المؤثر وهي في حضن أخي الكبير يشبعها عناقا ويشملها بحنان وعطف أبوي عظيم

بقيت مشدوها مسمرا في مكاني، مشدودا للأرض بألف سؤال، غارقا في دوامة التفكير بعلاقتي الغابرة مع أمها، وذكريات لقاءاتنا العابرة بمحطة الباص. مستحضرا بالتفاصيل ردود فعل سيلين البريئة والتلقائية حينما كانت تبصرني، وأدركت أنها كانت تقصدني فعلا من خلال أوجه الشبه بيني وبين أخي، لأن الدم يتعرف على فصيلته، والعرق دساس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى