محمد الشرادي - خارج العود الأبدي

- 1 -
لم يكن يخامر يوسف عدوان – و سأكتفي بتسميته من الآن فصاعدا عدوان فقط، – أدنى شك في أن أباه قد سمع عن نيتشه، أو أنه يعرفه بالفطرة،لأنه يماثله في كثير من الأمور. و إن كان أبوه أميا، و كلامه سوقيا، فإنه لا يجد دليلا على هذا التشابه إلا نوبات الخرف التي كانت تصيب أباه فتفقده الصلة المعقولة مع العالم الخارجي… شاربه الطويل الذي اتخذ شكل مخروطين يفتل طرفيهما الدقيقين إلى الأعلى فيصيرا كقرني جاموس بري. ثم السوط المعلق بغرفة النوم، و قد كان يحرص على تجديدها إذا تآكلت بعض أجزائها.

في صباه، كثيرا ما كان يغافل أباه و أمه، فيدخل غرفة النوم…يقف أمام المرآة…يفتل شاربيه الوهميين… يأخذ السوط…يسوي الوسادة على السرير…يشرع في جلدها،و عندما يتعب…يعلق السوط في مكانه…يعود إلى المرآة ليتفرس في وجهه و ما ارتسم عليه من علامات الرضى و الاستحسان..يفتل شاربيه. ثم يخرج… يجلس تحت ظل الدالية التي كانت تغطي فناء الدار… يضحك حين يتذكر اليوم الذي استرق فيه السمع لأبيه و هو يحدث عمه:

- المرأة تحتاج دائما لكي تذكرها أنك الناهي، و الآمر في البيت، و أحسن طريقة لتشعرها بذلك، هو السوط…جلد المرأة صدقة فاستعن على أدائها بالكتمان.

- 2 -

يفتخر عدوان بكونه وارث سر أبيه، لا يخالفه إلا في حصوله على شهادة عالية أهلته لأن يكون أستاذا للرياضيات. و يضارعه في صفاته الثلاث التي تقربه من نيتشه : شاربه الذي يرعاه بعناية فائقة…حالة الهستيريا التي تفاجئه مصحوبة برغبة جامحة في ممارسة العنف على المحيط الذي يعيش فيه،و السوط الذي أخذه من غرفة النوم يوم مات أبوه. يعتبر نفسه رجل نيتشه الخارق. ليس لأنه يستطيع إنقاذ الكون من دمار محتوم، أو تغيير مجرى التاريخ، أو الإتيان بأعمال يعجز العقل على استيعابها، والإحاطة بها. أو لقدرته على الانفلات من قيود الميتافيزيقا. و نصرة المستضعفين في كل مكان. بل يرجع ذلك لقوته الجنسية الهائلة،وانتصاره لغرائزه . حدد دور امرأته في وظيفة ثانوية هي الأشغال المنزلية، و أخرى أساسية هي الوظيفة الجنسية. عندما يقضي وطره منها، يحس أن رغبته تتجدد بسرعة، و تنهض من رماد حرائق شهوته على الفور.و يرغب في تكرار الفعل ثانية و ثالثة.. يعتبر التكرار حكمة نتشوية عظيمة. و خير التكرار عاجله. مهما كانت الوضعية التي يرغب فيها، يحرص على أن تكون تحته بالكامل،لأنه يجد حرجا كبيرا في مخالفة أراء مثله العليا في عالم الفكر،و يردد قائلا:

- أنا الأعلى، وأنت الأدنى، حكم عليك أن تبقي في الأسفل..

.تحت بطني…سلطتي…وصايتي…نفقتي…و تحت سوطي العجيب.

لا سبيل لها على الاعتراض.تشعر بالتقزز إلى درجة الغثيان. يتحول هذا الفعل الرائع إلى عود دائم، لكنه أجوف لا مذاق فيه، و لا طعم… إلى حلقات تعذيب بدني و نفسي لا تطاق. لا تتوانى أبدا في إرضائه.وهو يتلذذ بانصياعها. يعتبرها آلته العجيبة. نعم آلة عجيبة. تفعل كل شيء بالعادة. بطريقة ميكانيكية…تطبخ …تكنس…تغسل…تلبي رغباته بعفوية و تلقائية مذهلة. و الآلة لا تكل و لا تمل، و تستجيب دائما لطلبات مالكها. و في حالة ما أصابها الكلل، و لم تعد قادرة على النهوض بوظائفها باعها واشترى واحدة جديدة.

- 3 -

خرج مساء من المؤسسة رائق المزاج، و هو يجهل سر هذا الانشراح الذي يسكنه.فكر في الحفاظ على انبساط سريرته ما تبق من هذا اليوم، و راح يخاطب نفسه:

- سأركب سيارة أجرة كي أصل البيت بسرعة. لا بد أن حليمة قد وضعت على المائدة في الفناء صينية تحمل براد شاي معطر، وطرزت جوانب الصينية بعجائب ما تصنعها أنمالها الذهبية.سألقي بجسدي على الكنبة الزرقاء، و أسترخي مغمض العينين.ستقف حبيبة خلفي، وتدلك كتفي، وعنقي.و إذا ما غمرني الشعور بالراحة. ستصب كاس شاي و تقدمه إلي مع قطعة حلوى، مصحوبا بدعائها المعهود: بالصحة و العافية.

تفاجأ أنه أمام باب منزله. فتح الباب. و جد المنزل موحشا، ساكنا. نادى على حبيبة أكثر من مرة.لم يتلقى أي جواب. دخل المطبخ… صعد إلى السطح …نزل…دخل غرفة النوم. و جد المهد فارغا، وملابسها لم تكن في مكانها. لقد غادرت البيت. أصابته هستيريا حادة. شتم…لعن … رفس المهد فصيره قطعا متناثرة…لطم مرآة الصوان بقوة…بقيت مكانها لكنها تشظت إلى قطع مختلفة الأشكال، متفاوتة الأحجام. أخذ السوط…سوى الوسادة على السرير…شرع في جلدها، و عندما تعب…علق السوط في مكانه…عاد إلى المرآة ليتفرس في وجهه. لأول مرة يرى بشاعته. كان وجهه بعيون، و أنوف، و أفواه متعددة.و شاربه على شفته كنقط حذف لا معنى لها بتاتا.

استدار نحو صورتها.غداة حسناء. بالكاد تعدت عقدها الثاني. وجه مليح، ينضح أنوثة و صدقا. هادئة و متعقلة. رأى دمعة تسيل على خدها. مسحها بيده. أحس بحرارتها و ملوحتها. فرك أصابعه، وجدها مبللة. لم يعد قادرا على حبس دموعه. لكنه لن يتركها تنهمر أمامها. خرج إلى الفناء، وانخرط في بكاء مر، تحول إلى عويل سمعه المارة و الجيران. شرعت الكلمات تتدفق من فمه:

- كيف تجرأت على مغادرة البيت. تركتني وحيدا، مسكونا بالأسئلة…لم تشتك يوما رغم تجبري، و شططي.أين تراك تختبئين الآن؟ و كيف حال صغيري؟هل ستعودين لتملئي رحاب البيت بصبرك؟…و يملأه الصغير

بشغبه الجميل؟

ضغطت الصدمة على أعصابه. مزقت دواخله.هشمت كبرياءه.أفقدته التوازن، و القدرة على التركيز.دموعه تواصل الانهمار على خديه. باغته أبوه يبكي. استشاط غضبا. زاد حنقا عندما علم أنه ينتحب من أجل حبيبة:

- قبحت من ولد. أي نسل هذا الذي خلفته؟ اخرج إلى الشارع ستجد النساء ينتظرن إشارة واحدة منك ليقعن لك ساجدات. عندما يبكي الرجل من أجل امرأة. فعويله علامة على تخنثه.

من دون تردد انقض على أبيه، أمسك بعنقه. ضغط عليه بقوة. رماه جثة هامدة. انتفض في كنبته و هو يهلوس:

- كان علي أن أقتله منذ زمان…أقتله في عقلي…في أعماقي…في ذاكرتي

كيف سمحت له أن يصير بوصلة توجه مسيرة حياتي؟كيف سمحت لنفسي أن أسير في دربه الذي لا يفضي إلا للخراب؟.

- 4 –

كثيرا ما تطلع عدوان في طفولته للوقوف على طبيعة العلاقة التي تربط أباه بأمه. يعني حياتهما الخفية. لم يتأت له ذلك، و لن يفلح في الوقوف على خباياه إلا بتحليل علبة المنزل السوداء، غرفة النوم. حفها والده بقدسية بالغة، و بسرية كبيرة. ثقب المفتاح المنفذ الوحيد لدخول النور، و الممر الأوحد لولوج البصر إلى ربوعها، يسدل الأب عليها منديلا أسود من الداخل. و يجهز على الأمل في القبض على أسرار التعاطي فيما بينهما. و لكن عدوان يستطيع أن يرسم البعض من ملامح هذه العلاقة. فهو مثلا لم يسبق له أن رأى أباه يضرب أمه، ومع ذلك يستطيع أن يقطع أن الأمر كان يحدث مرارا و تكرارا. يستشف يقينه من السوط المعلق بغرفة النوم، و من التصريحات التي أفضى بها أبوه لعمه، و من حالات الانطواء و الانعزال التي كانت تعتري أمه، فتبقى محتجبة في غرفة النوم لأيام طويلة محاولة التستر على حالتها، و إخفاء الآثار المادية و النفسية الناجمة عن العقاب. أغراه السوط، و داعب خياله. تسلل مرات إلى عرين الليث، و عبر بلعبه الإيهامي عن تمثيل مشاهد باستعمالها و الإصغاء لطنينها و هي تلكث الوسادة … سكنه ذلك المشهد، لكنه لم يعد لعبة، بل صار واقعا يمارسه مرارا في حياته الزوجية. يستلذ بضربات السوط و هي تحرق جلد حبيبة التي تترنح تحت لفحاتها كسمكة معلقة بطرف صنارة. يتملكه الشعور بعظمة نيتشه،و نظريته في العود الأبدي . و مسيرة الزمن الدائرية. كل شيء يتكرر تلقائيا في حلقات متتالية، خاصة اللحظات المشرقة التي يهزر فيها حبيبة بالسوط. و إذا لم تتكرر من تلقاء نفسها يصطنع المواقف لتعود. يضربها إلى الرأس كمن يقتل حية. يستمتع بشهيقها، و بخروج أنفاسها متلاحقة، هاربة من الحرائق التي تضرمها الضربات القاسية في أعماقها. وطدت حبيبة العزم على ألا تمنحه فرصة التلذذ بآلامها، وتصمد في وجهه، و في وجه سوطه. بات صمتها، و عدم بكائها، و صبرها على إهاناته المتكررة،و تحملها يضايقه. يزداد قسوة و فضاضة…تزداد تصلبا و عزما على تنغيص متعته… يضرب. .يضرب .. يضرب …تجتاحه هيستربا جنونية.. يخر على الأرض و هو يلهث ككلب عاد من مطاردة خاسرة.

- 5 –

فاجأته أمه بزيارتها. وجدته وحيدا كبعير أجرب نبذه القطيع. عانقها كما لم يعانقها من قبل. وضع رأسه على كتفها. أحست البلل يتسرب عبر جلبابها. رفعت رأسه. لم يجرؤ على النظر في عينيها. استدار نحو الجدار واتكأ عليه بجبهته. دست يدها اليمنى في شعر رأسه الكثيف تداعبه و تسأله:

- أين حبيبة؟ أين الولد؟ لم أسمع ضحكته المفعمة بالسحر.

بقي صامتا. لم يعد لسانه يجرؤ على الكلام. ماذا سيقول لأمه؟ هل يخبرها أنه قلد أباه منذ صباه حتى بات جلادا لا يرحم؟ لن يتحمل أبدا نظرات أمه. ستكون رماحا صلدة تدمي قلبه، وروحه. سمعها تقول:

- هجرتك حبيبة.أخذت طفلها وفرت من جحيمك. ورثت عن والدك التجبر، و الرغبة في قهر أقرب الناس إلى روحك. حبيبة عملة نادرة… معدنها أصيل…بلسم شاف…شجرة وارفة ظلالها…حلوة ثمارها…طلعتها متعة لعينيك… لن تظفر بمثلها ما حييت.

أي رجل يتجرأ على إلحاق الضرر بتلك الفراشه المرحة…جمال …صبر…خفة روح. الزواج ليس حربا لترويض المرأة و قهرها، بل هو معركة ضد الكره،و التسلط، و الشطط.الغالب فيها من تسلح بسلاح الحب…من مسح الدمعة… من منح الأمان. علمتك لتشب مختلفا عن أبيك. لكن من كان أصله حنظلا لا يمكن أن يكون عسلا.

- ارحميني يا أمي. لا تنكئي جراحي . في داخلي تتناسل الأوجاع، و أحسني أتهاوى إلى الجحيم، وروحي تستعد لمفارقتي.هجرتني حبيبة و تركتني وحيدا أقرأ ديوان ذكرياتي. أداري حاجتي لحنانها الدافئ الذي طالما طوقني. فقط عودي يا حبيبة لأرمم قلبك المشروخ… لأبني لك قصرا في قلبي، و أشهد لك بالولاية على كل كياني، و أهشم كل أصنامي الفكرية.

- طهر أعماقك……اغسل أدران قلبك بالدموع. افتح قلبك الموحش للحب… تتجلى لك الأسرار الربانية …اترك خيوط نوره تطرد العتمة من أرجاء فؤادك الداجي…تدفئ عواطفك المقرورة. اسمح لندى الحب أن يطهر عواطفك من الكره و الحقد…تحصل على الأمان و السلام…ألا بالحب تطمئن القلوب.

وضع رأسه على ركبتها كما كان يفعل في صباه و أسلم جفونه للنوم.

- 6 -

سمع عدوان وهو في فراشه، أو خيل إليه أنه سمع وقع خطوات رشيقة في فناء المنزل، كتلك الخطوات التي كانت تحدثها حبيبة عندما تعد له فطور الصباح. بل سمع ابنه الصغير و الضحك يترقرق في ثغره. قفز من سريره يخفة. خرج من غرفة النوم و هو ينادي:

- حبيبة…حبيبة. ما أطيب قلبك الحنون. عفوت عني و عدت. ردد النداء. لم يتلقى جوابا. صفع وجهه صفعة قوية ليستفيق من أوهامه. عاودته موجة الكآبة و اليأس. اشتعل جسمه حرارة. أحس بحلقه يجف بسرعة. دخل المطبخ. أخذ قنينة ماء و شربها بكاملها. عندما هم بإغلاق الثلاجة و قعت عيناه على ورقة بداخلها. فتحها، و شرع يقرأ.

بسم الله الرحمان الرحيم

أستاذي و زوجي

في القسم ملأت قلبي بهيبة محياك، و سكنت روحي بجدك و صدقك في العمل.كلما نظرت إلي قرأت وجهك، فأجده مفعما بعلامات الرغبة، وإشارات التودد.عندها تيقنت أن مراكب عشقي لن ترسو إلا على شواطئك التي اعتقدتها آمنة دافئة. يوم حدثني عن الزواج نسيت كل طموحاتي، و تخليت عن كل تطلعاتي.عدت إلى المنزل بسرعة البرق. دخلت غرفتي. وقفت أمام المرآة.أعرف أنني بهية، عذبة. كثير من أقراني في المدرسة سعوا للود مني، لكنني تحاشيتهم جميعا من أجلك. صببت في وجهي كل مهاراتي في التجميل. استنهضت صدري. طيبت جسمي على هذا البهاء اخترت أن أزف إليك. عندما داهمني النوم عانقت وسادتي، و نمت مدثرة بحرارة أشواقي.

رأيتك وأنت بعيد، مفعما بالرموز، والأسئلة.لكن حين دنوت مني شممت فيك رائحة العشيرة، و السلالة،و السادية، و الذكورة الجوفاء…

إذا جنح سلفك إلى الظلام، وهم الأميون، فاجنح و أنت المتعلم،إلى النور…يرث الناس المحبة، و الرفق، و ورثت أنت القسوة و السوط والشوارب و نوبات الهستيريا…

صرت حملا رغيبا…صخرة عاتية تجثو على أنفاسي. و أنا لست سيزيف قاردة على حملك إلى ما لانهاية. لم أبحث عن الخلود في مجلدات الأساطير. بل كنت أرغب فقط في بيت يأويني… في رجل يرفني و يحفني. في دفء يشعرني أنني لم أخطئ حين هجرت أحلامي…

و اعلم أنك لم تكن الأعلى أبدا، و لن تكون كذلك مادمت سليل الشهوة المتوحشة… و وريث البطش. صرت في كنفك أصبر من وتد على الذل.لعل معجزة تحدث فتنسى صباك، وتقلع عن غيك، و تعود إلى رشدك. لكن الظل لا يستقيم و العود أعوج.

تتساءل إن كنت ستراني مرة أخري. صديقك نيتشه يقول حتما ستلقاني. كل شيء سيعود، و سيتكرر كما عشناه في السابق.سأكون تلميذتك النشطة في القسم، ستنظر إلي بنظراتك المتوسلة.ستحدثني عن الزواج. لكني سأصرخ في وجهك،و في وجه نيتشك:

- أنا خارج أوهام العود الأبدي. و كل ما صرت أكره في حياتي هو التكرار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى