حسين مروة - مجانين... القدس

في مدينة القدس، أثناء نكبة فلسطين.. ثمة واقعة رواها الشهيد حسين مروة في مقالة كتبها في جريدة " الحياة " البيروتية وفي زاوية "مع القافلة"، تحت عنوان "مجانين ... القدس "

عرفت القدس أول مرة، منذ يومين اثنين، ولكن قبل أن أرى وجهها كما هو، رأيت " مجانينها " هؤلاء، فعرفتُ بهم القدس كلّياً: وجهها وقلبها وعقلها معاً ..

ولو كنت رجعتُ من ساعتي الأولى، ولم أرَ شيئاً من معالم المدينة وملامحها، لكان في معرفتي "مجانينها" ما يكفيني بها علماً أصدق العلم .

لم يكونوا مجانين من قبل، لكن هكذا سماهم أصدقاؤهم ومن تخلّف معهم في المدينة يوم النكبة، مؤْثرين أن يُعايشوا أشباح الحظر والقلق ليلَ نهار، على أن يُعايشوا الهزيمة والذلّة والتشرّد في بلادٍ سمّتهم " اللاجئين "

كانوا يومذاك قلّة ضئيلة " ترابط " على خط النار، وكانت القلّة القليلة من المدينة، أو كان "الحيّ الباقي" منها أشبه بالقفر ليس يجد فيه الزائر مأوى ولا مطعماً ولا مسرباً، فتنادوْا بينهم إلى " فكرة " ثم سرعان ما أجمعوا أمرهم أن يتحدّوا أشباح الخطر والقلق، وأن يُغمضوا أعينهم ليروْا خطّ النار في مدينتهم، كأنه خطٌّ هنديسيّ وهمي لا وجودَ له.

بل لقد عزموا أن يروْا خطّ النار كأنه دعوة تهتف لهم أن يرسموا من ساعتهم تلك خطّ الأمل بجسّ المصير، يوم تعود المدينة المقدّسة كلها إلى أهلها، ليس عليهم لأجنبي سلطان وليس لغاصب فيهم أثر ولا عين .

منذ يومهم ذاك، سمّوهم" المجانين " ... قالوا لهم: إنما أنتم حفنة من الرحال لا تملك حفنة من المال، فكيف - إذن - تبنون بلا مال؟ ... وإذا ملكتم المال، بقدرة قادر ساحر، فكيف تأمنون أن تضعوا حجرا على حجر، وهذه قنابل العدو على مرمى العين منكم تتربّص بكم الليل والنهار، لكي تهدم ما تبنون وتمحوَ ما تُديرون وتنشئون؟

فقال لهم " المجانين": نعم هذا جنون، ولكن لا بدّ من ناس يبنون الحجارة الأولى للمصير الذي نرتقب، فإذا لم يكن " العقلاء " هم الباقين الأوّلين، فلْنكنْ نحن " المجانين "، لأن لا بدّ لمثل شعبنا من مثْل هذا " الجنون " ...

وكان "الجنون " الذي لا بدّ منه، وكانوا هم " المجانين " الذين بدأوا يبنون المدينة على خط النار... ومضت على النكبة سنوات، وإذا هناك أبنية، وفنادق وحوانيت عربية، وإذا بصناعات وطنية ناهضة، وإذا لاجئون متشرّدون يرجعون، وينبعث في المدينة المقدّسة أمل يكبر كل يوم، ثم ينبعث الأمل عزم وتصميم وإصرار على البقاء في ظلال الخطر إلى أن يتحقق المصير المنتظَر المحتوم!


*المصدر: أرشيف "النداء"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى