محمد برادة - محاولة

إني أكاد لا أصدق، يخيل إلي أن لا تغيير طرأ على حياتي كل شيء من حولي وكل الأصوات التي تبلغ سمعي تؤكد لي أنني لم أفارق هذه الغرفة التي أتمدد فيها الآن.. غرفة ضيقة ذات أثاث حقير، سريران يكادان يلامسان الأرض، وثياب مكدسة في إحدى الزوايا، وإلى جانبها مجمر وبراد تحيط به ثلاثة كؤوس من غير صينية.. ارفع بصري إلى السقف فأصافح العنكبوت، وقد امتدت خيوطه في كل اتجاه، والمح خنفساء تحبو على مهل كأنها في نزهة الصباح! أما الشباك الصغير فيطل على شارع السويقة، ومنه يبلغني خليط عجيب من الأصوات والروائح.. أصوات الراديو وأصوات الباعة وهم يتنافسون في لفت أنظار الزبائن..وتتسرب إلى انفي رائحة البصل والبطاطا والسمك والعنب والزيتون، ومن حين لآخر يصلني صوت الجزار المجاور وهو يصيح:
- صلوا على النبي يا ناس!
كل ذلك يؤكد لي أنني لم أفارق هذه الغرفة ولم أعش بعيدا عنها، وأكاد اصدق لولا ذكرى مغروسة في أعماق نفسي تعرض أمامي صورا متلاحقة لتجربة التي عشتها منذ أمد قريب، والتي كان أمس آخر يوم فيها. كان أمس آخر يوم في التجربة القاسية التي عشتها، وانتهت بأن دسست فلذة كبدي تحت التراب، ورجعت اجر رجلي في كآبة لاستقبل من جديد الليل في الدروب الموحشة. هل تعرف الليل في الدروب الموحشة؟
إني لا تذكر ضراوته جيدا عندما وجدت نفسي أمامه وحيدا منذ خمس سنوات في هذه الغرفة الحقيرة.. كان أول يوم وصلت فيه من قريتنا الصغيرة التي فارقتها ونفسي ممتلئة أملا في أنني سأكتشف عالما جديدا عندما اصل إلى العاصمة، كنت أسمع عن العمارات الشاهقة وعن السيارات وغيرها من العجائب، فتستولي علي الدهشة، وأصبحت أعز أمنية لدي هي السفر إلى المدينة لأعيش في وسط الدوامة المتحركة، وانفض عني غبار القرية وأحاديثها المملة.. وفي أول يوم وصلت فيه على العاصمة، انطلقت أجوب شوارعها وأتفرج على وجهات متاجرها، متتبعا لكل حديث يدور بين اثنين، فقد كانت بي لهفة إلى معرفة أشياء كثيرة.. وعندما كنت أتحدث إلى أحد كان يخيل إلي أن كل ما يتلفظ به جديد يستحق الحفظ فكنت أجهد ذاكرتي لاختزانه...
وحل المساء، فتفطنت لإلى ضرورة العثور على مسكن آوي إليه، فسالت رجلا في الشارع، فأرشدني إلى فندق بالسويقة لم أجد فيه سوى هذه الغرفة الضيقة التي اقتسمتها مع رجل يبلغ أربعين سنة، نزح هو الآخر من قريته، ويتمتع بشارب كث نسيت أن أقول لكم أن الخنفساء الصديقة تمر فوقه عندما تعتلي صورته المعلقة وهي نزهتها الصباحية.
حاولت أن أنام مبكرا بعدما تعبث طيلة اليوم، ولكن أحاسيس حادة انبثقت في نفسي فذادت النوم عن عيوني.. شعرت أنني وحيد في هذه المدينة الشاسعة، وأنني مجهول من كل الناس، وألا أحد يشعر بوجودي، وكانت رياح الخريف تصفر في الدرب فأحسبها عواء ذئب... وتراءت لي جدتي وأختي في منزلنا بالقرية، وهما تتساءلان عما آل إليه أمري، فتوقد الحنين في صدري وتمنيت لو أنني ظللت في مأمن من هذه الوحشية المؤلمة...
كل لهذا الاستقبال الذي لقيتني به المدينة الكبيرة في ليلتي الأولى اثر يبعث في نفسي الكآبة كلما تذكرته.. وتبين لي منذ تلك اللحظة أنه يتحتم على أن أتذرع بالشجاعة فلا أتراجع أمام هذه الإحساسات الأولية؛ فصممت على العثور على عمل يضمن لي البقاء في المدينة، وقد سهل لي الأمر شريكي في الغرفة فعرفني على صديق له يدير داكانا لصناعة الأحذية، ورأى في هذا الأخير شابا ساذجا يمكن أن يبذل أقصى المجهودات دون أن يتأفف أو يطلب أجرا مرتفعا، ومع الأيام انعقدت بيني وبين« معلمي» علاقة تشبه الصداقة، خاصة بعد أن عرف أنني غريب عن البلدة، فكان يستدعيني من حين لآخر إلى بيتهن وكثيرا ما يكلفني بقضاء بعض حاجياته، وبذلك أصبحت أتردد على البيت في غير ما كلفة.
وذات يوم لاحظت وجود فتاة في بيت «معلمي» لم يسبق أي أن رأينها.. كانت ذات مسحة من جمال حزين، معتدلة القوام، مسرفة في الصمت.. وتطلعت إليها في اهتمام وهي تساعد زوجة «معلمي» في أشغال البيت، وعندما ابتعدت ابتدرتني قائلة:
- هل أعجبتك؟ لقد أطلت إليها؟
- أبدا.. إنما أراها تختلف عن الخادمات فمن تكون؟
- إنها يتيمة جاءت من مدينة«سبتة» ولم تجد من يؤيها فأتت بها«أمي فطومة» لتشتغل عندها إلى أن تصادف«ابن الحلال».
وقلت في اهتمام:-هل أنت متأكد من أنها يتيمة ؟
- نعم .. كل التأكيد..
طيلة ذلك اليوم تركز تفكيري في الفتاة اليتيمة، وطافت بذهني أحلام دافئة، واستيقظ في نفسي الشوق إلى الاستقرار الهادئة… فقلت في نفسي: إن الوحشة سيقرب ما بيننا، كلانا نزح عن موطنه وذاق مرارة التشرد.. ساجد فيها البلسم الشافي..وستذوب في بسمتها كل متاعبي.. وفي الليل بدلا من أن آوي إلى غرفة حقيرة تنتظرني فيها الوحدة والسآمة، ألجأ إلى زوجتي لأجد عندها الحب والحنان والدفء والقبل .. سأطلق حياة العزوبة بما فيها من ضياع وامتهان لاستقبل حياة الدعة والاستقرار.
وكان علي أن أبادر بالإفضاء برغبتي إلى«معلمي» حتى يمهد الأمر، وحينما انتهيت من عرض مشروعي أجابني وقد علت شفيته ابتسامة رقيقة:
- الله يحب الحلال.. ولا يسعني إلا أن أبارك وأشجع.
كانت فرحتي عظيمة لم أطلق حبسها في نفسي، فأردت أن أعلنها إلى كل من أعرفه، ولكنني تذكرت أن هذا الإعلان يستتبع توسعا في الدعوة إلى العرس، وميزانيتي لا تحتمل ذلك.. فقررت إلا أخبر أحدا سوى شريكي في الغرفة الذي استقبل الخبر في سخرية كأنه يعلم مقدما أنني سأعود في يوم ما إلى غرفتنا الصغيرة.
وعندما أخبرت زوجة«معلمي» بأنني لن أقيم حفلة للعرس، تجهم وجهها واعترضت بشدة، فأدركت أنها أصيبت بخيبة إذ لم تكن تشجعني عبثا على الزواج، فقد كانت تنتظر من وراء ذلك أن تكون مشرفة على الاستعدادات التي تسبق العرس.. ففراغ نسائنا يدفعهن إلى تشجيع عزاب العائلة على الزواج ليجدن في ذلك متعة وتغييرا لحياتهن الرتيبة، على أن الذي أسرني هو موافقة«راضية» زوجتي للشكل الذي ارتأيت أن يتم عليه عرسنا.. نتعشى في بيت«معلمي» ونسهر سهرة عائلية ننتقل بعدها إلى بيتنا دون أن أستلف مقدارا ضخما أقيم به حفلة العرس.
انسابت الأيام الأولى من حياتي الزوجية لينة هادئة، زاد أثناءها إعجابي بزوجتي إذ كانت مسالة لا تهتم بالمظاهر، وتتحمل راضية ما كان في عيشتنا من شظف، وذات يوم فوجئت بها ترجوني أن اكتب لها رسالة إلة زوجة أبيها«بسبتة» لتطمئنها على مصيرها.. فلم أجد من اللائق الاعتراض على طلبها، وبعد فترة وجيزة تلقينا رسالة من زوجة أبيها تخبرنا أنها آتية لتمضي عندنا أياما قليلة.
لم أشأ أن أحمل نفسي فوق ما أستطيع لأبدو في عين الزائرة أكثر مما أنا في حقيقتي.. لقد كنت أشتغل اليوم بأتمه وما أربحه في النهار يذهب به الليل.. ليست لي ضمانات ضد المرض والتعطل من العمل، ومع ذلك أقدمت على الزواج.. لماذا؟ لأنني كنت أفضل طعم الحلال على اختلاسات الحرام، وربما لأنني لا أحس ذلك، لست أدري، وأيضا لأنني لا أستطيع أن أترك الوحشة تنهشني.
وصلت الضيفة، وحرصت على أن يكون غداء اليوم الأول فاخرا بعض الشيء.. ولم أستطع فهم خطوط شخصية ضيفتنا، فقد كانت تقتضب في حديثها معي وتصطنع الحشمة المتناهية كما تقتضي عادة نسائنا.. على أنني استطعت بعد أيام قليلة أن اعرف بطريقة غير مباشرة أي نوع من النساء كانت.. عرفت ذلك بواسطة التغير الذي طرأ على زوجتي.. تغير اتخذ أول الأمر شكل تأفف مما كنت أحمله من أكل متواضع، والذي كانت تتقبله من قبل باسمة متهللة.. وتطور هذا التأفف إلى تجهم واعترض، قالت لي ذات مرة:
- بطاطا كل يوم… وربع كيلو لحم، إنه لا يكفي حتى لمجرد الشم!
وابتسمت وأنا أرد:-ستتغير الحال.. الصبر جميل.
ومن غير أن تستمع إلى ما قلته،حملت القفة ومضت تتمم سخطها على هذه العيشة السوداء وفي الحقيقة لم أدر أن اصدق ما سمعته، وأخذت انتحل لها الاعتذار، كيف تتحول«راضية» الزوجة الهادئة إلى امرأة مشاكسة؟ هكذا بدون مقدمات تعلن سخطها بصوت مرتفع لا شك أن ضيفتنا قد سمعته.
وعندما احتوانا الفراش في الليل، سألتها عن سبب غضبها غير المعتاد، فأجابت في جفاء:-إن روحي تكاد تزهق من هذا الضنك.. كل الزوجات يشترين أثوابا جديدة ويحضرن في الأفراح إلا أنا..
وقاطعتها في حدة:-ولكنك تعرفين أنني رجل فقير.. لقد حدثتك عن كل شيء ورضيت بأن تتزوجيني، لقد قلت لي أن ما يهمك في الدرجة الأولى هي المعاشرة الطيبة.
واستمررنا في الأخذ والرد، وكشفت لي«راضية» عن جانب كنت أجهله فيها، جانب اللجاج والتعلق بالتوافه. وقبل أن أغمض عيني خطر لي أن هذا التغير ربما كان طارئا جلبته الضيفة معها، فعقدت العزم على التأكد من حقيقة الأمر. في اليوم التالي تظاهرت بالخروج ووقفت في مدخل الدار أتسع ما سيدور بين المرأتين من حديث، صدق ظني، لقد كانت الضيفة حاملة بذور العصيان، سمعتها تقول بعد أن حكت لها«راضية» ما دار بيننا في جدال الأمس:
- هذه هي الطريقة التي تجدي مع الرجال.. إذا مل تلاحقيه بالمطالب وتكثري من الشكوى، فسيسرف في تقتيره عليك، وربما طالبك بالاشتغال من أجله..
شعرت وأنا أستمع إليها كأنها تسمم كاس سعادتنا، وفي ثورة جارفة دخلت بادي الغضب لأطلب من الضيفة مغادرة البيت، أقدمت على ذلك لأنني كنت أظن أنني أدافع عن سعادتي وأن طرد مصدر الشقاق كاف لأن يرد حياتنا إلى سيرها الطبيعي.. إلا أن«راضية» تنمرت وتحولت إلى شخصية تمثل الشراسة في أقصى صورها.
وكانت طبيعتي الواضحة الصارمة التي لا تحتمل الزيف ولا ازدواج المشاعر، تلح علي لأطلقها واجعل حدا لهذه المحاولة التي قصدت بها أن أدفع عني الوحشة والملل.. إلا أن بطنها المنتفخ كان يحتم علي طرد هذه لفكرة، جزء من صلبي أحكم عليه بالتشرد ومرارة الإهمال واحرمه من حنان العائلة؟؟ يستحيل أن أقدم على ذلك. إن سعادتي قد انتهت في تلك اللحظة، فقررت أن استمر ماسكا بالخيط بيني وبين زوجتي من أجل المولود الذي كان على وشك الخروج إلى الدنيا..سأحقق عن طريق كل الرغبات التي استشعرت قيمتها،كنت على الجنين- وكان لدي شبه يقين أنه سيكون ذكرا-آمالا كبيرة...
مضى الشهر الذي بقي على ميعاد ولادتها بطيئا مملا، تذرعت فيه بالصبر واحتملت سخطها واستفزازاتها للخصام.. كنت أعيش على انتظار شيء كبير.. وكنت أظن أن المولود سيجعل حدا لهذا التنافر، ويعي الوئام المفقود.
هيهات! إني لا أزال أتذكر تلك العبارة المألوفة التي استقبلتني بها المولودة وهي تتمتم مصطنعة الأسى- البقية في حياتك.
هكذا يسفر انتظاري عن لا شيء.. عن مولود ميت. ما زلت أذكر تلك اللحظات، إني لم أسبل فيها دموعا بل تجمدت عواطفي وحملت النعش الصغير ومن ورائي معلمي وصديقي، إلى أن وصلت المقبرة ودسست الجسم الصغير تحت التراب.
وعندما انتهيت شعرت براحة كبيرة تغمرني كأنني تخففت من حمل ثقيل.
أردت أن أكون سعيدا، وتمسكت بآخر خيط ولكنه افلت مني… ربما كان الأساس الذي حاولت أن أقيم عليه صرح سعادتي خاطئا، لست ادري.. ولكنني شعرت بضرورة إنهاء هذه المحاولة وإيداعها صفحة الماضي، لذلك كتبت وثيقة الطلاق وبعثتها مع صديقي، ثم سرت متجها إلى غرفتي الصغيرة الأولى، لأستقبل فيها الليل بما فيه من وحشة وكآبة، والنهار بما فيه من ضجيج وأصوات.







دعوة الحق ع/18

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى