مقتطف محمد محضار - حديث الأمس .. الفصل الإول من رواية " هلوسة "

ليل صامت ،وحلكة قاتلة ،لحظات ثقيلة تنسل محملة بالألم ،ووحشة تكبر وتتضخم لتصبح كجبل صخري ،يحاصر الذات ،كآبة تتسربل بثوب السديم وتحط الرحال ضيفة ثقيلة على القلب ،يمكن الآن أن نتحدث بهدوء عن زمن شاحب مر من هنا ، يمكن أن نخوض في حوار سطحي ، عن أشياء دارت بيننا ونحن في تلك الشقة الوضيعة بسطح العمارة" اللعينة "هكذا كنت تفضلين تسميتها ، التسمية لا قيمة لها بالنسبة لي أنا على الأقل ، لأن العمارة كانت توفر لي عشا آوي إليه ،وأمارس طقوسي الخاصة ، وأعيش هلوساتي دون رقيب ، كنتِ أنت الشاهد الوحيد على جنوني ، وكنتُ أنا الشاهد الوحيد على غرائزك الغارقة في الضلالة ، لا هي ليست ضلالة ، بل إبداعا ،إبداعا بصيغ متنوعة لا يفهمها إلا المهووسون بغواية الحواس المدركون لجنون التماهي في نشوة الانطلاق نحو لذاذات الذهن والجسد ،صوتك دائما كان يتردد قويا ، يهز أركان المكان ،"الجسد امتداد للنفس والعكس صحيح كلاهما جوهر ومن يقول غير ذلك لا يفهم شيئا في كنه هذه الحياة "، كنت أعلم أن لك منطقا خاصا وقوة إقناع تتجاوز سفسطة عشاق الجدل .
الشيء الأكيد أن لغة التمرد كانت تجمع بيننا ، وقوة الشكيمة كانت توحدنا لهتك بكارة الأعراف السائدة ، وتحطيم صنم التقاليد البائدة والأنماط المتداولة ، فليس كل قديم مقدسا ، ولا كل ما يمت بوشيجة للسَلف غير قابل للنقد ،الشيء الوحيد الذي كنا نختلف فيه هو إيماني القطعي بقوة الحدس لدى بعض الناس ، و كنت أعتبر نفسي واحدا منهم ، كنت دائما أجهر بذلك وأعلنه دون تردد :" الحاسة السادسة حقيقة أكيدة ،عند الصفوة ، ومن طورها نال المبتغى " .لم تكوني تترددين في نعتي بالصوفي المتمدن ، والحداثي المتناقض ، التسمية لا تهم ، لكن ذلك الـتآلف الداخلي لدي بين الإدراك الحسي ، المعتمد على الحواس الخمس و الحدس الداخلي الذي يرى العالم الخارجي بنور الذات كان شيئا عاديا لا يتأثر برأي الغير، كنت مقتنعا بأن الإنسان مزيج من التناقضات التي يُكيّفها حسب الوضعيات التي يواجهها والظروف الزمانية والمكانية التي يصادفها في مساره الحياتي .
وكنت أردد مع الغزالي " الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عباده عطية وهدية من عنده" وألح على التأكيد بأن على الفراسةهديَ صاحبها إلى اكتشاف بصائر الأمور وتجاوز وجع الاسئلة الوجودية ، لكن هذا لم يكن ليمنعني من الثورة في وجه من يحاول استغلال جلال هذا الايمان لوضع الطوق حول عنقي وتدجيني للسير وسط القطيع والقبول بالانبطاح لمن يرى نفسه سيد الناس ونور الله في ارضه ، كنت صاحب فكر خاص ، وتفكير لا يتأثر إلا بما يستسيغه العقل ،ويجيزه الحدس ، وغير ذلك لا يهمني في شيء.
سيدتي لا أحد يمكن أن يتصور شيئا من جمال الأمس، جمال أمسنا وروعته ، حتما الشقة " اللعينة " تحفظ لنا الكثيرمن أحاديث الأنس والمؤانسة ،ستقولين :" الأمس مضى ، ونحن اليوم كهلان خذلتنا السنون ،وتجاوزنا قطار الحياة".قد يكون هذا مجرد تخمين مر بخاطري ، وأنا ألقاك اليوم بعد فراق امتد أكثر من ثلاثة عقود ،تقارعين كأس الوحدة وتصارعين من أجل البقاء .سألتك وأنا أعلم أن السؤال لاجدوى منه :"أين كنت يا شقية ؟ ".
كان ردك ، صمتا وابتسامة شاحبة،وعينين ساهمتين ،كررت السؤال مراتِ متتالية ،وأنت في صمتك غارقة ، مابالك ياعشتار منصرفة عني ،أين رحيق الورد المتناثر سحرا على ثغرك العذب؟ أين بريق الحب يشرق من خديك الأسجحين ؟ أين الشوق المتناسل فرحة بكرا على محياك ؟ أين لغة الحداثة ، وحديث الفجر ونحن نتقلب على فراش العشق ؟ بربك لا تتركيني لوجع السؤال ، وأنا الكهل المجنون ، الذي خدلته الأيام ، وتعثرت قدماه في مطبات الحياة ، أناالليل الحالك بلا قمر ، أستحث الخطى نحو النهاية البئيسة ،أنا الوجع الساكن في ذاتي ، وبئس الأمر أن تصبح وجعا لذاتك .
سيدتي الردود الصامتة تصيبني في مقتل ،وأنت لا تترددين في انتقاء أكثرها برودة وجمودا ،سيدتي أرجوك ،قولي شيئا يبدد غيمات الحزن التي تتلبد بها سمائي،فأنا فتاك الحالم الذي طالما زين جيدك بطوق ياسمين،ونثر في طريقك أمداد ورد ورياحين ،
أنا فتاك المتمرد الذي كان يصرخ ملء فيه :"الحياة وأنت سواء ، الحب حقيقة، تعلمت أبجديتها حين عانقت في جسدك دفء الوجود،".
سيدتي، أنا الآن جالس في حضرتك ، منتظرا في هدوء،سماع صوتك الذي ما يزال صداه يتردد في مسمعي ، دون ان تفلح السنون في تبديد ذبذباته الأثيرة ،فهل تتفضلين بالكلام ،وتنفضين الغبارعن ماضينا العميق في تجلياته ؟
ما بالي أقف أمامك مشدوها أخوض في يمٍّ بلا قرار من التساؤلات والتجاذبات الداخلية ؟ مابالي أصر على أن أعود إلى نقطة البداية ، وكأن عقارب الساعات ظلت تابثة في مكانها دون حراك ، وكأن الأمر مجرد يوم وليلة ، مرّا عليّ وانا نائم كفتيان الكهف وكلبهم ؟
ستقولين : " من أنت يا فلان ؟أنا لا أذكر منك إلا شذرات متفرقة يصعب تجميعها والخروج بها إلى بؤرة الواقع ".
أتذكرين صوتك يحطم جبروت الصمت وأنت ترددين مع نتشه :
"عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لانه اذا كان في قهر النفس مرارة فان في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك".
ثم تكملين وعلى وجهك ترتسم ابتسامة قوة وشموخ :" هكذا تكلم زردشت".
أنا اليوم أريد أن أصالح نفسي بك ، أريد أن أطرد الشقاق ،وأقتل بؤس اللحظات الذي حط الرحال في محيطي ،أريد أن أتكلم بلغة تفيض طاقة إيجابية ، أريد أن أستعيد شاعرية الأمس بطعم اليوم ، فلا تحرمي قلبي من متعة التلذذ بهذا الصرح المتوهج بألوان قوس قزح ، المفعم بفلتات فرح مقتنصة من رحم المعاناة ،رحماك سيدتي ،قولي شيئا ،حركي شفتيك ولو بالميم ،فقلبي يلتقط ذبذبات كلماتك الصامتة ،وعقلي يفك شفرتها ، لأنك كنت ومازالت حاضرة في خلايا ذاكرتي .
سيدتي أزمنة الأمس تشهد أننا كنا على ملة واحدة ، تجمعنا سفينة فريدة ،وينظم سيرنا ناموس واحد كتبنا بنوده في الشقة اللعينة ، كتبناها بالدم والدموع في أوقات متفرقة ، وصغنا حروفها بعذاب عمرٍ يصعب على غير اللبيب فهم رموزه المتماهية مع شفرة تاريخنا الجيني ،الشيء الأكيد الآن أنني لا أستطيع أن اترك اللحظة الحالية تفلت مني ، وأذهب إلى حال سبيلي وكأن شيئا لم يكن . أنت قصة حبي المبتورة ، والهوامش المخطوطة على جوانب حياتنا المرتبكة ،تفرض علينا العودة إلى نقطة الصفر ، وتحريك مياه البركة الآسنة .
قواسم الأمس المشتركة لا تسمح لنا بتجديد العهد مع الفرص الضائعة وأنا لن أتركك تذهبين بعد هذا اللقاء الجديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى