عبد المتعال الصعيدي - القضايا الكبرى في الإسلام.. قضية زيد وزينب

قضية زيد بن حارثة وزينب بنت جحش من أكبر القضايا الإسلامية، وتمتاز بما كان فيها من تنحي القاضي الذي رفعت إليه أولاً عن الحكم فيها، لأنه رأى أن له فيها شأناً، فلا يصح أن يحكم فيها وله شأن بها، وذلك أصل معروف من أصول القضاء وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية وإن لم يكن محل ريبة، ليضع ذلك التشريع في القضاء الإسلامي، ويأخذ به القضاة في التنحي عن نظر القضايا التي يكون لهم فيها شأن.

ويرى الذين كتبوا في هذه القضية أنها تبتدئ من النزاع الذي حدث بين زيد وزينب بعد زواجهما، وإني أرى أنها تبتدئ من ذلك الزواج نفسه، وأن ذلك الزواج لم يكن إلا تمهيداً لهذه القضية التي لم يكن أمرها مقتصراً على زيد وزينب، وإنما كانت وسيلة لإبطال عادة ظالمة من أكبر عادات العرب في جاهليتهم، بل من أكبر عادات الأمم القديمة من عرب وغيرهم. وقد اختيرت هذه القضية لإبطال هذه العادة، واختير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو البادئ بإبطالها في أمر نفسه، لأن ذلك هو شأن كل مشرع، ولأنه كان لتلك العادة سلطان على النفوس، فلا يهون من أمرها إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو البادئ بإبطالها.

كان العرب في الجاهلية يلحقون بعض الأجانب بأولادهم، ويعطون الدعي جميع حقوق الولد في الإرث وحرمة النسب وغيرهما، كما كانوا يخلعون أبناءهم من نسبهم لسبب من الأسباب فيأتي الرجل منهم بابنه إلى الموسم ويقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلب، فلا يؤخذ بجرائره.

وكان زيد بن حارثة من بني كلب، وأمه سعدى بنت ثعلبة من بني بن طي، فزارت قومها ومعها زيد ابنها، فأغارت خيل من بني القين على قومها، فاحتملوا زيداً وهو غلام يفقه، فأتوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له، وقد مكث عنده حتى حج ناس من كلب فرأوه فعرفهم وعرفوه، ولما رجعوا إلى قومهم أعلموا أباه حارثة بموضعه، فخرج هو وأخوه كعب بفدائه فقدما مكة، ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يبعث بعد، فقالا له: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك. قال: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال: أو غير ذلك؟ ادعوه فخيروه، فإن أختاركم فهو لكم بغير فداء، وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء. ثم دعاه فقال له: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي. فقال له: فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا له: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك. فقال لهما: قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، ثم انصرفا إلى قومهما.

فصار زيد يدعى زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، فكان من أسبق الناس إسلاماً، ثم هاجر إلى المدينة، وقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له ابنه أسامة. فلما كانت السنة الخامسة من الهجرة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل عادة التبني، لأنه لا يصح أن يكون الولد ولداً بقول تنطق به أفواهنا، وإنما الولد قطعة من أبيه، فهو أبوه بذلك أراد أو لم يرد، وهذه هي الحقيقة والفطرة وما عداها كذب وغش، وليس للرجل أن يكون له حق إرث أقربائه، ثم يأتي بأجنبي عنهم فيجعله ولداً له، ويؤثره بإرثه دونهم، فذلك ظلم من أكبر الظلم، وقطيعة لا ترضاها شريعة من الشرائع العادلة.

فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار له زوجاً ليعقبه عليها ويبطل بالفعل قبل القول تلك العادة الظالمة، ولهذا خالف ما فعله معه في الزواج الأول حين اختار له مولاته أم أيمن، فكان نسبها قريباً من نسبه، لأن قرب منزلة الزوجين في النسب له أثر في الألفة بينهما، وفي عدم تعالي أحدهما على الآخر، فتطيب بذلك عشرتهما، وتستقر به رابطة الزوجية.

ولكنه في الزواج الثاني كان يعلم أن مآله إليه، فلم يختر فيه لزيد بل اختار لنفسه، ليقضي الله ما أراده من إبطال عادة التبني ولا يكون عليه حرج في زواج من لا يريدها إذا أرادها لنفسه أولاً، ولهذا اختار لزيد هذه المرة زوجاً من أعلى قريش نسباً، وهي زينب بنت جحش الأسدية، وأمها أميمة بنت عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق، ومن أتم نساء قريش، فلما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت ذلك وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله، فلا أرضاه لنفسي. وكذلك أبى أخوها عبد الله بن جحش، فأنزل الله في شأنهما الآية من سورة الأحزاب (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) فلما سمعت ذلك زينب وأخوها رضيا وسلما. وجعلت زينب أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكحها زيداً ليقضي الله ما أراده من زواجه بها.

وما كان الله ليزوج زينب زيداً على غير رغبتها لتكون زوجاً دائمة له، وهو قد شرع فيما شرع استئمار النساء في النكاح، حتى يكون النكاح عن رغبتهن، ويكون عشرة طيبة راضية لا نزاع فيها ولا خلاف، بل محبة وإخلاص وتعاون على المعيشة، وذرية صالحة متألقة بتآلف الأب والأم.

فلما دخل زيد على زينب لم يمكنها أن تتغلب على ما تشعر به من رفعة نسبها على نسبه، ولم يمكنها أن تحبه كما تحب الزوج بعلها، لأن الحب ميل فطري من صنع الله تعالى، وليس من صنع الإنسان ولا غيره من الخلق، فلم تحسن عشرتهما، ولم يهنأ بذلك الزواج كما يهنأ غيرهما، فكانت تتعالى على زيد بنسبها، وكان زيد لا يطيق ذلك ولا يحتمله، لأنه لم يكن أرادها لنفسه عن حب لها حتى يحتمل ذلك منها، وإنما كان شأنهما واحداً في ذلك الزواج. أريد لها أن تتزوج به فرضيت تنفيذاً لأمر الله، وأريد له أن يتزوج بها فرضى تنفيذاً لأمره أيضاً.

فكان زيد يشتكيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة، فيأمره باحتمالها والصبر عليها، فيصبر زيد ويحتمل تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ضاق بها ونفذ صبره، ولم ير بداً من طلاقها، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوها إليه وأخبره هذه المرة بأنه يريد طلاقها، فأمره أيضا باحتمالها والصبر عليها، وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.

كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي له بفراقها. ولو كانت القضية غير هذه القضية لقضى فيها بالفراق، وأراح الزوجين من هذا الشقاء الذي ينافي شريعة الزواج، ويخالف حكمته المذكورة في قوله تعالى في الآية (189) من سورة الأعراف: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة منها زوجها ليسكن إليها).

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن له صلة قوية بقضية زينب، وأن الله لم يرد أن يزوج زيداً زينب على غير رغبتها إلا ليطلقها فيتزوجها بعده، ويبطل بذلك بنوته له بالفعل قبل أن يبطلها بالقول، فأمسك عن الحكم فيها بما كان يجب أن يحكم به في نظيرها، ليضرب بذلك مثلاً للقضاة بعده، فيمسكوا عن الحكم في كل قضية يكون لهم صلة بها. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أعداء من اليهود والمنافقين، فخشي أن يطعنوا عليه بالباطل، وأن يقولوا انه تزوج امرأة ابنه، وأخشى على زيد أن يقوم بنفسه شيء إذا تزوجها بعده.

ولم يكن بعد ذلك إلا أن يتولى الله الحكم فيها، حتى لا يكون لأحد كلام في حكمه، فأنزل في الحكم بطلاقها وزواجها من النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الآية (37) من سورة الأحزاب: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفى في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وكان أمر الله مفعولا) وكانت زينب تفتخر بذلك على أمهات المؤمنين فتقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.

عبد المتعال الصعيدي


مجلة الرسالة - العدد 670
بتاريخ: 06 - 05 - 1946
  • Like
التفاعلات: جعفر الديري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى