محمد صوف - النهر..

قلت للساقي اسقني خمرا وأتم الساقي بيت أبي نواس وضحكنا معا وتحاكينا نكتا كثيرة خليعة.
خلاصة القول. ضحكنا.
خلاصة القول أنه ظل يسقيني حتى امتلأت حياةً.. ولست أدري لحظتها لم سمعت مناديا يتحدث لي عن البداية والنهاية هباءً.. وقررت في عز نشوتي أن أهرب من صوت المنادي وكلما أمعنت في الهرب أمعن في الملاحقة.

وهكذا .. إلى أن وصلت غديرا . اختلط الورد بالريحان بالراح . اختلط صوت المنادي بخرير مياه الغدير الرقراقة.. وتحت شجرة وارفة الظلال.. قلت هنا سأهوي ثملا. وهويت .. هل تتصورون أني تمددت تحت كرمة وتركت ساقي لماء الغدير يغسلهما مرة واحدة.. لا مرتين.

أما أنا فقد كنت أسير على ضفة نهر صغير. على ضفة نهير صغير كنت أسير .. رأيت ضفدعة تزحف نحو الضفة. ثم رأيتها تتوقف.. وتنتظر وكأنها على موعد مع ذكرها قلت سأنتظر بدوري.
وبدوري انتظرت..
ولما انتظرت رأيت ..
رأيت عقربا تتدحرج حاملة شوكتها وكأنها على موعد مع عقرب ذكر.
ثم رأيت ..
العقرب تستقر على ظهر الضفدعة..
ثم رأيت ..
الضفدعة تعود من حيث أتت فأسقط في يدي ..
ماذا في الأمر ؟
لا يستطيع من رأى مشهدا كهذا أن يقاوم فضوله ولم أقاوم فضولي.. وقررت أن أدخل النهر وأن أقتفي أثر هذين الحيوانين وأرى بأم عيني ما سيؤول إليه أمرهما. حاولت ألا أزعجهما.. وألا أفسد خطتهما.
في هدوء سرت في الماء وعيناي لا تفارقان الحامل والمحمول.
خرجت الضفدعة من الماء
ووقفت كما يقف قارب يحمل ركابا..
ونزلت العقرب من على ظهر الضفدعة وتابعت طريقها
ثم ماذا بعد ؟
العقرب وصلت. ويجب أن أعرف إلى أين هي تتجه.. وبعد أن كنت أقتفي أثر حيوانين أصبحت أقتفي أثر حيوان واحد.
وتابعت العقرب طريقها وكأنها تعي جيدا إلى أين هي ذاهبة.. لم يبد عليها تردد.. وفي ملتقى طرق لم تتوقف. لتتأمل أو تتذكر أي السبل ستسلك مالت يمينا وسارت.. سارت وأدركت نقطة ماء.. غدير يتفرع عن النهر الذي قطعته على متن ضفدعة.. قرب الغدير شجرة.. تحت الشجرة شاب يغط في نوم عميق وعلى مقربة منه أفعى تتأهب لزرع سمها في الشاب. تلوّت الأفعى ، تراجعت إلى الخلف. أطلقت فحيحا يقول للشاب هيت لك.. ثم اختنق الفحيح وبدل الارتماء إلى الأمام تمادت في التراجع إلى الخلف.. تراجعت.. تراجعت .. تلوّت .. تلوّت .. ثم سقطت جثة هامدة.
ثم رأيت العقرب تطل من خلف الجثة وتعود من حيث أتت.
كل ذلك والشاب لا يعلم شيئا مما دار حوله.. بل تقلب ثم انبطح على بطنه وواصل شخيره..
على ضفة النهر كانت الضفدعة تنتظر وصول العقرب.. امتطت ضفدعتها وسبحت هذه الأخيرة نحو الضفة الأخرى..
امتدت يد الشاب خارجة من نومه ولامست شيئا ناعما.. تحسست أصابع اليد الشيء الناعم ثم فتح الشاب عينيه ليرى يده تداعب الأفعى الميتة.
ثم فتح عينيه أكثر فأكثر..
سرت حمرة على وجنتيه وجذب يده كمن أحس بلسعة .
و نهض مفزوعا..
قلت له
- لا تخف.. لقد كتب لك عمر جديد.. أنصت, سأقص عليك قصتك..

قص علي الرجل قصتي.. تعجبت. شل لساني ولم أحر جواباً
الرجل الذي قص علي قصتي قال ..
تأمل ما جرى لك ..
ثم قال :
- إياك أن تعتقد أن ما حدث لك مجرد صدفة.. إياك أن تتصور أن الفلك يدور اعتباطا ..
وأضاف :
لك دور في هذه الحياة. كما كان للأفعى دور وللعقرب دور وللضفدعة دور ولي دور..
ثم لم يضف شيئا ..
كأن سحابا مر.. لا . لم يمر. كأني افترشته.. وكأنه ارتفع بي.. علا وحلق دون جناح. هكذا كنتُ. كأن نشوة أخرى غير تلك التي عرفتها عند الساقي تجوبني.. أنا الذي كنت أرى النشوة في الحبيب والحياة وجدتني أعيش سكرا لا أريد منه صحوا.

أما أنا فقد كنت أسير على ضفة ذلك النهر الصغير وتذكرت الضفدعة والعقرب وقلت سأرى الكرمة والغدير ومكان الأفعى والشاب.. و دخلت الماء واقتفيت أثر عقرب وهمي هذه المرة. عاد المشهد إلي بتفاصيله..
إلا أني لم أر الشاب.. رأيت الكرمة.. ورأيت خلقا كثيرا ورأيت ضريحا متواضعا..
سألت عن الأمر ..
فقص علي أحدهم قصة شاب أنقذته عقرب من أفعى.. وقصة عقرب دخلت الضريح ووقفت على قبر متواضع.. وأنا أتأمل شاهد القبر ابتسم لي الشاب وهمس.. شكرا أيها الصديق المجهول إذ لولاك لما عثرت على ذاتي..
منذ تلك اللحظة وأنا أحلم بأن أحلم بالشاب ليقص علي ما وقع له بين زمنين.. منذ أن قصصت عليه قصته إلى أن قص علي أحدهم قصته..
قد يأتي يوم أعرف فيه هذه الحكاية..
وقد يأتي يوم أقصها فيه عليكم بدوركم.


محمد صوف

الجمعة 10 يونيو 2005





محمد صوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى