جبريل خزام - أفلاطون الشاعر ونظريته في التقمص..

نظم أفلاطون الشعر قبل أن يعرف الفلسفة وقبل أن يتصل بسقراط، وله مسرحيات شعرية ولكنها ضاعت كلها ولم يصل إلينا شيء منها. . . وليست تهمنا هنا هذه المسرحيات في شيء، ولكن الذي يجدر بنا أن نعرفه أنه كان شاعرا قبل أن يكون فيلسوفا. . . ثم تعلم الفلسفة على يدي أقرا طيلوس العالم الطبيعي القديم الذي كان يعتقد بالتغير المستمر للأشياء، ثم عرف سقراط واعجب به، ولم يلبث أن صار من تلاميذه المقربين.

وهجر أفلاطون الشعر لسببين: أولهما تحوله تحولا كليا إلى الفلسفة التي بهره بها أستاذه الكبير سقراط. وثانيهما أن سقراط كان لا يرضى عن الشعراء لاعتقاده أنهم يزيفون الحقيقة ويقلبون الحق باطلا والباطل حقا. ولكن الذي لا ريب فيه أن أفلاطون وإن كان قد هجر الشعر إلى غير رجعة، إلا أن تأثره الشعري القديم كان عاملا كبيرا من العوامل التي أثرت في فلسفته تأثيراً ملحوظا، فجاءت ممزوجة ببعض الخيال، ويتجلى ذلك في (فيدون) عند استعماله ألفاظا شعرية في حديثه من أمثال: يلوح لي أو يبدو لي أو إن ما أراه. . . تلك التي دعت الكثيرين إلى الشك في نظرية الخلود التي احتوتها هذه المحاورة المعروفة، حتى قيل إن هذه النظرية محض اختلاق، وإنها خيال شاعر أكثر منها فلسفة حكيم.

وأفلاطون يؤمن بأن التأثير الشعري في النفس سابق للتأثير العقلي. فنحن حين ننظر في الوجود وفي الأشياء المحيطة بنا أو عندما نسمع رأياً من الآراء لا نعتبر في حالة قبول تام مباشر لأننا لسنا كالإناء يصب منه الماء، ولكن لنا احساساتنا وعواطفنا التي نسبر بها غور الأشياء أولا قبل أن يستقبلها العقل؛ فالعين تنفعل إذا وقعت عليها الأضواء والألوان، وهي تضطرب بمشاعرها واحساساتها. ثم يتدرج ذلك إلى الشعور العقلي والإحساس الذهني، فتدرك العين ماهية هذا الشيء الذي يسقط عليها، ويستطيع أن ينفرجا تدريجيا.

ومنهجه في الجدل دليل آخر على تفكيره الفلسفي الذي يخالطه الخيال الشعري المتغلغل في نفسه منذ صباه. ومنهجه هذا يتمثل في دورين: جدل صاعد وفيه يصعد أفلاطون من المحسوسات إلى المعقولات، كأن يفكر مثلا في وجود الأشياء الطبيعية حتى ينتهي إلى الله الذي هو كائن معقول غير محسوس، ثم جدل نازل وفيه يهبط إلى الدرج المعقولات إلى عالم المحسوسات ليرى هل هي يعينها تلك التي صادفها في صعوده. فأفلاطون يصعد أولا إلى المعقولات غير المستجدة، وينحدر من عالم المحسوس ليصل إلى نقطة نهائية وهي إثبات وجود الخالق، ثم هو يبدأ في النزول من خالق مضطرا له اضطرار، مكرها عليه إكراها لكي يتأكد من صحة الخطوات التي صعدها، ليعلم بصواب ما ذهب إليه في تفكيره.

وهذا المنهج الجدلي يختلف تمام الاختلاف عن منهج سقراط، فسقراط يطلب من محدثه أن يحدد له الألفاظ التي يستخدمها في حديثه وله في طريقته خطوتان هما: التهكم والتوليد، ففي الأولى يوجه إلى محدثه أسئلة يطالبه بالإجابة عنها حتى إذا أعترف المحدث بعجزه عن الإجابة عنها وقصوره عن إدراك الحقيقة كاملة خطا سقراط خطوته الثانية فيشرح له - عن طريق الأسئلة التوضيحية - رأيه الخاص في الموضوع الفلسفي الذي كان موضوع المناقشة.

وهذه الطريقة العملية البحتة في الجدل، تختلف تماما عن طريقة أفلاطون الصاعدة والنازلة والتي ينزع فيها إلى المعقول ثم إلى المحسوس. زد على ذلك أن سقراط كان جدله بينه وبين الناس. . . أما أفلاطون فكان جدله يجري بينه وبين نفسه، وهذا ما اسماه بمناقشة النفس نفسها أي التفكير المنفرد الذي هو أشبه بالمناجاة الشعرية الفلسفية منه بالتفكير الفلسفي المحض.

وقد قسم أفلاطون العلوم إلى: حساب وهندسة وموسيقى؛ وقد رتبها هذا الترتيب لأن كل علم لاحق يعتمد على العلوم السابقة له، ثم يزيد عليها. فالهندسة تعتمد على الحساب وكذلك الفلك، كما أن الموسيقى تعتمد عليها جميعا.

وقد ذهب إلى أن هذه العلوم تظهرنا على أن فينا قوة تترفع عن الإحساس المادي وهي العقل. وأفلاطون في جميع فلسفته يحاول أن يسمو على الإحساس المقيد إلى التفكير العقلي المطلق؛ ثم هو لا يقف عند هذه الدرجة، بل يقول بأن العقل في جميع مراحله السابقة لا يقنع، ذلك أن العلوم في هذه المرحلة القاصرة. تستخدم مبادئ أعلى منها ولا تبرهن على وجودها، مثال قولنا إن هذا الشيء اصغر من ذاك أو أكبر منه أو مساو له. ويخرج أفلاطون بهذا إلى العلوم والمعارف الإنسانية، فالعدالة والظلم والقبح والجمال والصغر والكبر والمساواة معان كلية عامة لا نستطيع أن نقول إنها موضوع علم بعينه كالحساب أو الهندسة ولكنها دائرة أوسع وأكثر شمولا للمعرفة العقلية من هذه العلوم. ويخرج أفلاطون من ذلك كله إلى أن الإحساس وحده لا يكفي لإقامة العلم، ويستدل عليه بأن الحيوان يعتمد على إحساسه المادي ولكنه لا يصل إلى مرتبة المعرفة العلمية.

ويتساءل أفلاطون عن كيفية حصولنا على هذه المعاني الكلية فيقول: إنا لم نحصل عليها عن طريق التجربة، لأن هذه المعاني هي نفسها التي ساعدتنا على فهم التجربة، فلا يبقى لنا إلا أن نقول إنها في النفس منذ الميلاد، وما الميلاد عند هذا الفيلسوف الشاعر؟ إنه نزول النفس إلى الجسم بعد أن كانت في عالم الأرواح، أو نزولها من العالم المعقول إلى العالم المحسوس. وهذا ألهمه إياه خياله الشعري القديم. فهو يعتقد أن النفوس الإنسانية وجدت أول الأمر أرواحا هائمة في عالم الأرواح غير متصلة بمادة ما، وأدركت في ذلك العالم الأمور الروحية ومنها المعاني التي ذكرناها والتي أطلق عليها اسم المثل. فلما هبطت هذه النفوس إلى الأجسام المادية وسكنتها واعتراها نسيان لاتصالها بهذه المادة الكثيفة، فبقيت كأنها لا تعرف شيئا حتى تنبهت بإدراك الحواس. وكلما أدركت شيئا ما من حياته الأرضية كان هذا تذكر لما حدث مثاله في حياته الروحية السابقة، وهذا هو اصل العلم عند أفلاطون. والنفس الإنسانية في رأيه قد تعود إلى هذا العالم أكثر من مرة ماد دامت لم تتظهر من التعلق بالأشياء المادية المحسوسة، وفي رجوعها قد تتقمص جسما حيوانيا كما قد تتقمص جسما بشريا، وهذا ما يعرف بالتقمص أو التناسخ.

والواقع أن أفلاطون قد مزج فلسفته بالخيال فجاءت مزاجا عجيبا معجبا في آن واحد. . . عجيبا لأن الشعر والفلسفة متناقضان على خط واحد، فهذا ينشد الخيال في السماء، وتلك غالبا ما تبحث عن الحقيقة في الأرض؛ ومعجبا كذلك لأن فلسفته هذه الممزوجة بالخيال جعلت أسلوبه الجدلي اقرب إلى الفلسفة الأدبية الشائقة منه إلى الفلسفة العلمية الجافة.

جبريل خزام


مجلة الرسالة - العدد 701
بتاريخ: 09 - 12 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى