عائشة حجي - الحق والحقيقة عند عبد الرحمن حجي..

احتفل تاريخ الأدب المغربي والعربي بذكرى مرور نصف قرن على التحاق الشاعر الأستاذ عبد الرحمن حجي بالرفيق الأعلى في 29 أبريل من سنة 1965. وشاركت جريدة الاتحاد الاشتراكي و»ليبيراسيون»، مشكورتين، في الاحتفال بنشرهما لمقالين بالمناسبة مبرزين ما جاء في ديوانه الزاخر بمختلف المعاني الناطقة والبيانات الصادقة التي تعكس تطور مجتمعنا من عصر الحماية البائد إلى عصر الاستقلال والحرية.
ومن جملة ارتسامات عبد الرحمن حجي ترحيبه تارة باستكانة الوضع القائم والتعبير عما يخالج خواطره بالبشرى بتحرير بلادنا من قيود الاستعمار وطغيانه والافتخار باسترجاع حريته وكرامة أبنائه تحت راية ملكه المفدى المغفور له محمد الخامس ? طيب الله ثراه- وتارة بثورة فكرية تعكس موقفه من جور الحكام فيبرز ذلك في انتقاداته شعرا للسلطات الحاكمة التي تسلطت على عقول غالبية الأنام وهيمنت على مختلف الأوساط السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسنها قوانين جائرة قد توحي بمظهر الحق وهى بعيدة عنه كل البعد.
بهذا المنظار وبإطلالة على أشعاره التي تنم عن غيرة على وطنه وأبناء بلده، وبالتأكيد على ظروف نظمها من جهة، والإشارة إلى طباع الشاعر التي لا تستسيغ الكذب والنفاق والتخاذل و المجاملات الفائت حدها وسائر ضروب التهاون و....يتجلى لنا حكمه على سيطرة الحكام وطغيانهم في قصائده العديدة المتنوعة نخص بالذكر منها قصيدته «مظاهر الجور»، حيث يقول فيها :

نزلت فينا آية دون فهم = فهى تقضي بكل وجه وحك
فإذا رمت الحق منها تراه = ليس حقا، وإنما شر ظلم
أسست «جبهة» تقوم بتنفي = ذ مساعي الحكام، آه لقومي
فهى تبدي نزاهة واعتدالا = ودعايات زيفها صار يعمي

فبعد أن نادى سنة 1962 بدستور يقنن أحكام العدل والمساواة بين أفراد المجتمع في قصيدته «في المطالبة بالدستور» بقوله:

آن للحق أن يقال ويرضى = ولوجه الصواب أن يترضى
ومن العدل أن نصادف تأيي دا = وأمنا كى نشرب العدل محضا
ذاك شأن الدستور إن كان حقا = يفرض العدل والمساواة فرضا

إلى آخر القصيدة حيث يخلص بقوله:

وإذا لم يكن كهذا فحبر = سود الصحف بالذي ليس يرضى

ثم في قصيدته «مناداة الملك بالدستور» يؤكد :

ضل شعب لم يهده دستور = إذ لياليه كلها ديجور
ويلاقي تعثرا في خطاه = وعرته ضلالة وثبور

إلا أنه بعد التقلبات التي رافقت تطور المجتمع، تبين له انزلاق الحكام في مهاوي الضلال وبدت للعيان تناقضات في تطبيق أحكام القوانين الدستورية وعدولا عن مظهر الحق والعدل بعد بروز حزب جديد خلق من عدم وهو «حزب الجبهة الديموقراطية للدفاع عن المؤسسات الدستورية» «FDIC» الذي تظاهر بالدفاع عن هذه المؤسسات، فصاغ الشاعر انطباعاته في وصف المجتمع المغربي وحقوقه المضاعة في أبيات شعرية من قصيدة له عنونها ب «في الدستور المطبوخ» ومطلعها:

جاءنا الدستور يسعى = في التواء مثل أفعى
يظهر الحق رياء = وهو لا يألوه دفعا

إلى ختام القصيدة المكونه من 62 بيتا كلها حسرة وأسف على شعب يسوسه «أوباش» ب»بدع» اختلقوها من غير استشارة أفراده ودون تقبل من المعارضين انتقادا وردعا.
و في 23 يوليوز 1963 أقرض في نفس المنحى قصيدة عنونها ب « في الدستور الممنوح» عبر عن تذمره من فرض الدستور بقوله:

فرض الدستور فرضا = لم يبح للناس رفضا

هكذا كانت انتقاداته موجهة لأرباب السلطة الذين لا يرون من الحكم سوى مصالحهم الشخصية، وظهر جليا عدم الوفاء بالتزاماتهم بل وبدت خيانتهم للعيان واضحة، ذاك ما نلمسه في أشعاره العديدة نذكر منها قصيدة: «حكامنا» ومطلعها:

تولى الحكم فينا أهل طيش = فيرقون المناصب قصد عيش

ثم قصيدته «حكام جهال» حيث يقول:

يتولى الأحكام فينا أولو جه ل = عريق ويدعون الصوابا
وهم لم يدروا إليه سبيلآ = عبدت بل لم يطرقوا فيه بابا
إن تجادلهم تجدهم حيارى = بل سكارى لا يعرفون جوابا
وإذا ما رددتهم لصواب = يستشيطون آنفين غضابا

ربط الشاعر حكم البلاد بالإخلاص والوفاء المفروضين في أربابه وخلص إلى أن انعدام التربية والجهل هما أساس انحطاط الأمة وفقرها، نلمس ذلك في قصائد عديدة منها «الوطن والجهال» ومطلعها:

وطن ذو الجهالة فيه = كغريق ميت يرى أو هباء

وقصيدة «حياة الذل» حيث قدمها بمطلع ربط فيه الفقر بالجهل مما أودى بحياة العز والكرامة إلى حياة الخمول والذل بقوله:

جهل وفقر على شعب قد اجتمعا = حتى غدا بحياة الذل مقتنعا

ثم أوعز الجهل والفقر إلى الكسل والخمول مناديا سائر طبقات الشعب بالعمل والجد والمثابرة معيبا عليها الخذلان والتواكل المشفوع بسوء الخلق في قصيدته «شعب داؤه الكسل» حيث يقول:
يموت بالفقر شعب داؤه الكسل وقد أحاط به الخذلان والفشل
ولم ينس ربط الكسل بانعدام الضمير لدى البعض وانزلاقهم في مهاوي الضلال، فلم يتوان لحظة في نظم قصيدة «ارتبكنا» من 35 بيتا عبر فيها عن تذمره وسخطه على كل من سولت له نفسه المس بقدسية الامتحانات وتسرب مواضيعها قبل يومها المحدد. صدر الإقدام على هذا الإجرام من كاتبة طائشة اعتبر فعلتها ناتجة عن جهل ولو أنها لقنت مبادئ التعلم واستهتار بتكوين التلامذة واستخفافا بمستقبلهم فكان هذا الحدث المشين مناسبة للتعبير عما أحس به من أسى وأسف بقوله:

ارتبكنا لما تركنا صراطا = مستقيما ونوره يستبين
وارتكبنا جرائما وفسوقا = ضاع منها إيماننا واليقين
إلى أن قال: بيع فيه سر امتحان = ببخس أو بعرض به يتم الركون
وأردف قوله بأبيات يرفع = من شأن العلم والتعلم بقوله:
تقرأ البنت في مدارس تعلي = شأن أخلاقها وكيف تكون
لا تلقى ما قد يعكر صفوا = من مياه الأخلاق وهي معين
ذاك رأيي في أمر كل فتاة = عندها في قلبي مكان مكين
علم الله أني ذو اهتمام = يعتريني منه شجا وشجون
لست أرضى لها معرة عار = أصبحت حولها تحوم الظنون
لا تخالوا أني شديد عليها = ذو جفاء وغلظة لا تلين
يا ولاة التعليم إني نذير = لكم من عار يكاد يبين

وتذكرني هذه الأبيات الشعرية النابعة من أعماق أستاذ غيور على وطنه وأبناء جيله بما صرح به أحد تلامذته المرموقين الأديب الدبلوماسي الأستاذ قاسم الزهيري في شهادة له في مؤلف «شهادات ودراسات شعرية» الذي تم نشره بعد صدور ديوانه الشعري بمناسبة الاحتفاء بالذكرى المائوية لميلاده حيث قال في كلمة له بالمناسبة أسماها: «عبد الرحمن حجي ملقن تراث ومنشء جيل» :
...»مع ما كان يبذله من جهد لتقويم لغتنا، وكان شديدا في معاملته لا يقبل تهاونا ولا يسمح بأي تراخ. ما زلت أذكره أيام الامتحان يأتي قبل التلاميذ فيوصد الأبواب والشبابيك دونه ويكتب المواضيع في السبورة حتى إذا دق الجرس فتح الفصل ووقف كالشرطي أمام الباب يفتش حقائبنا والجيوب ليخرج منها كل ما عسى أن نكون قد دسسناه لنستعين به على أداء الامتحان. حتى إذا أخذنا مقاعدنا كشف عن السبورة، ووقف يراقبنا لا تفارقنا عيناه، مع كل ذلك، كان أغلب التلاميذ يجد في تدريسه متعة قلما كنا نجدها في غيره».
وقد آن الأوان لأن نقوم بمقاربة لهذا الحدث مع ما حصل مؤخرا عند اجتياز امتحان الباكالوريا لهذه السنة حيث حصل تسرب موضوع امتحان الرياضيات فكانت فضيحة قوبلت بضجة من لدن التلامذة المجدين والآباء بعد اكتشاف «الجريمة»، مما ترك سخطا وأسى عميقا في نفوس الغيورين على التعليم ببلادنا. وتلقت الخبر المفجع وزارة التربية الوطنية التي أصدرت قرارها بإعادة امتحان تلك المادة بأيام قليلة، وتناقلتها الوسائل السمعية والبصرية من جرائد وصحف وتلفزة مستنكرة هذه الفاجعة الناجمة عن الانحطاط الفكري والاستهتار بالعلم والتعليم.
كانت هذه بعض أشعاره التربوية التهذيبية الشاملة لقصائد عديدة متنوعة، نذكر كذلك من بينها «الكسالى وباء» ؛ «أشياع الضلالة»؛»حياة الخمول»؛ «الكسل والجهل» ؛ «يم الجهل»؛ «أمتي: حالها ومآلها»؛ «حاجة الشعب إلى أبنائه»... التي يتمنى من ورائها استقامة الشباب ووعى طبقات المجتمع كافة. فما كان من بده إلى أن يتوجه إلى شباب العصر ورجال المستقبل موظفا قلمه بالردع تارة والهجو أحيانا ، بعد أن أمل في تربية الأبناء التربية الحسنة وتمكينهم من معرفة واجباتهم وحقوقهم فساهم أثناء تدريسه بمدرسة أبناء الأعيان بسلا ثم بثانوية مولاى يوسف بالرباط مساهمة فعالة في إيقاظ وعيهم الأخلاقي والوطني كما يشهد بذلك العديد من طلبته الذين تبوأوا فيما بعد مناصب عليا في المجالات الحكومية والبرلمانية والقضائية، شهادات قيلت في العديد من المناسبات جمعت في مؤلف «شهادات ودراسات شعرية حول ديوان عبد الرحمن حجي» الذي صدر إثر طبع ديوانه الشعري حوالى ربع قرن بعد وفاته وبالضبط بعد الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة مرور مائة سنة على ميلاد الشاعر برئاسة سيادة الوزير الأول الأستاذ عبد الرحمن يوسفي، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس أعز الله أمره وأبقاه ذخرا لبلدنا الحبيب.
لم ينحصر شعر الأستاذ المربي، كما نعته جل المحللين والنقاد لشعره في ما ذكرنا من قصائد الهجو والتحذير من الزيغ عن الطريق المستقيم قد نلخصه في قصيدة أخلاقية تهذيبية من 62 بيتا عنوانها: «كشف النقاب عن أخلاق الشباب» أنشأها سنة 1345 ه الموافق لسنة 1927م أثارت اهتماما بالغا لدى الأوساط الأدبية حيث وزعت النشرة الأولى منها على المدارس والمعاهد في ظرف وجيز وأعيد نشرها في طبعة ثانية مذيلة بنصي تقريض صادرين عن أديبين هما الأستاذ أبي بكر بن أحمد بناني في قصيدة له بعنوان «غليان الصدر على شباب العصر» والأستاذ محمد المهدي الحجوي في قصيدته «نفثة شاعر» ومطلع قصيدته الأخلاقية هاته:

شعور الفكر في الأشعار يجلى = فيطرب سامعيه حين يتلى

إلى أن يقول:

تراءت لي الحقائق من بعيد = خيالا بالبلاغة قد تجلى
أرى خلق الشباب قد اضمحلا = وسوء الخلق قدحهم المعلى

محذرا إياهم من الانسياق وراء الملاهي والانصياع وراء رداء الفسق ونبذ الديانة معرضين عن سبيل الرشد وتحكيم العقل للبلوغ إلى أوج المعالي بقوله:

غواة العصر كفوا عن أذاكم = فإن لدى يراع الهجو قولا

ثم يفصح عن قول الحق ونصر الحقيقة في قصائد يود منها إبراز معالم النقد وفوائده، نذكر منها مطلع قصيدته «أقول الحق جهرا»:

أقول الحق جهرا لا أبالي = وأثبت للمعاند في النضال

وشعره في نفس المنحى من قصيدة: « نصر الحقيقة « حيث يستهله بقوله:

نصر الحقيقة مذهبي وشعاري = وأرى مجن الصدق خير دثاري

بل تعدى ذلك بشعر فصيح معبر في النصح والإرشاد والمباهاة في قصيدته: «ظفر المجدين»، ومطلعها:

الحياة الدنيا تنال بوصل = بحبال الأعمال من دون فصل

نلخص معناها في قوله

وذوو جد يظفرون بحظ وافر = قد يربي على كل أصل

وكلها قصائد وإن كانت معبرة عن أسف الشاعر على شباب عصره الذي انغمس في ميادين اللهو اقتداء بما زرعت فينا أوروبا ظنا منهم أن «التمدن هو في ثياب مزخرفة وصقل الوجه صقلا»، حاملا همومهم معبرا عن دموع بلاده شعرا، إلا أنها أشعار تتخللها نصائح وآمال مع مدح أصحاب البلاغة وأرباب الخلق ممثلا فيهم أستاذه «أبا شعيب الدكالي» فريدة عصره الذي من منبعه ارتوى ومن حكمه استقى، فأفصح عن إخلاصه ووفائه له بالاعتراف بالجميل. كما تردف بقصائد نحو الآمل في التقويم بنظرة تفاؤلية في قصيدته «أساس النهضة» حيث يقول:

أساس النهضة العمل = ومنه المجد يكتمل
وفي استمراره ظفر = وفي إهماله خطل
فقوموا يا بني قومي = إلى التشييد واحتفلوا
فإن الملك ينصحكم = ويدعوكم لتشتغلوا
ويرشدكم إلى النهج ال = قويم الحق فامتثلوا

إلى آخر القصيدة التفاؤلية التي أردفها بغيرها من الأشعار المعبرة عن طموحاته وآماله في استقامة بني جيله، نذكر من بينها قصيدته بعنوان: «جدوى الأعمال» حيث يفصح عن غايته في النصح والإرشاد بقوله:
حين نهدي نصحا فعن محض إشفا ق لكيلا تروا هوان ابتذال
وحين تتاح له الفرصة للتعبير عن سروره وارتياحه لخطى الشباب نحو الإخاء والتبصر لما فيه خير بلاده يرتجل قصائد في المدح والتشجيع نخص بالذكر في هذا المنحى قصيدته «تحية الشباب» التي ألقاها في الاحتفال السنوي لتجديد روابط الإخاء بين الشبيبة الرباطية والسلاوية في ثامن ذي الحجة عام 1347 ه موافق 17 مايو 1929 م ومطلعها:

سلام من سليم الصدر يهدى = إلى الشبان والنشء المفدى



ابنته عائشة حجي

* نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 29 - 06 - 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى