محمد حساين - العفيف.. قصة قصيرة

كل تشابه بين اشخاص هذه القصة وأماكنها وبين الواقع هو صدفة لا غير


تجاهل حوسين الزبونة الواقفة أمام كونطوار المصور رغم أنه احتك بها عند دخوله.
- سمحو ليا.
دون أن ينتظر أن يسمح له، وبثقة من له الأسبقية، توجه للشاب المستقبل للزبناء بنبرة المحتج المعوّل على خصام.
- كاين عبد الكريم لفوق؟
- ماكاينش عبد الكريم، باغيه لشي حاجه؟
- التصاور اللي دار ليّا خايبين
وضع فوق الزجاجة ، جيب الصور الصغيرة وظرفا فيه صورة أكبر حجما كأنما يرمي بكل هذا في وجه الشاب اللطيف الذي رد دون أن ينظر للصور.
- آش خايب فيهم؟ التصاور ديال التعريف هما هادو
- وجهي مطبّز وحنك طالع وحنك هابط !!!!
نظر الشاب إلى الكفيف حوسين، الذي تخفي ربع وجهه نظاراته السوداء وأخرج الصورة الكبرى وأبعدها عن عينيه وتأملها
- والله إيلا تصاور مزيانين، واللي ڭالّيك شي حاجه تيكدب عليك
- ما زوينينش، عاودهوم ونعاود نخلص مكاين مشكل
توجه الشاب صاحب المحل إلى الزبونة المتفرجة الواقفة بجانب حوسين
- عفاك أَلأخت، بصراحه واش هاد التصاور ديال لاكارت فيهوم شي عيب؟
هز حوسين رأسه علامة عدم الاكتراث وعدم الاعتبار بينما نقلت الشابة بصرها بين الصورة ووجهه الذي تعكسه مرآة أمامهما.
- بصراحه... بصراحه بصراحه ؟
- بصراحه
- هو زوين من التصويره
فاجأته بالمقارنة فصفق بيده كطفل وهتف:
- الله يزين يّامك أَلأخت.
ثم أضاف مبتسما مستطلعا بعد ثوان:
-...ويزيّن سعدك
- آمين
" آمين" هذه، زيادة على نوطة رجالية في الصوت، زيادة على عطر شعبي صارخ، زيادة على شعرات لمسته قبل لحظات زيادة على الحاسة التي يبصر بها ما لا يبصره المبصرون...، آمين الطويلة هذه، الحاملة للرغبة، الدالة على العزوبة وضعت الشابة لديه في خانة المشتهيات.
وهو على الرصيف، وكان قد غادر المحل قبل خمس دقائق، التقط أنفه الرادار وجودها بجانبه، كانت طبعا فتاة الأستوديو، خليط من رائحة العطر المسمى "أناليك" ورائحة كريفيا ورائحة العرق الأنثوي المثيرة.
- باغي تقطع الطريق؟
طوى عصاه البيضاء، شدت مرفقه فتملص وشد يدها وبعد أمتار كان قد أنهى قراءة كفها.
قراءة الكف هذه موهبته واختصاصه وتميزه ومفتاحه. كلمة كفيف تعني المبصر بالكف والمتواصل به عن طريق الشد والخبش وتفكيك رموز براي.
- عرف أنها يمكن،
- عرف أنها تشتغل يدويا اشتغال "الحادڭات"،
- عرف أنها حائض،
وبما أنه سيعود ليأخذ له عبد الكريم الغائب صورا جديدة، وبما أنها ستعود كذلك للأستوديو، بعد قليل، لسحب صورها وبما أنه.. وبما أنها.. بقيت في صحبته فعرف من هي، وكيف، ولماذا، ومتى، ورقمها، ورقمها الآخر، وعرفت من هو، ومنذ، ومتى، وأين، وكم، وأنه "بخير"، وأنه موظف ذو قيمة، وأنه يحب الحياة ويرفض كلمة معاق، ويكره طه حسين ومسلسل الأيام، ومعلمه السي السمعاني الذي كان يقول له كلما اخطأ " تاه حوسين".
حكى وحكت وكذب وكذبت وقال كل منهما للآخر أن أشد ما يكره من صفات البشر الكذب والنفاق و"الفوحان".
افترقا والتقيا، وافترقا والتقيا ثم افترقا ثم....، لأول مرة أحست كلتوم بكراهية شديدة لضيفة تأتي صحبة أخيها حوسين، كل صديقاته وخليلاته العازبات والمطلقات والمتزوجات كن يُستقبلن بالترحيب وإعداد المحل للفساد لكن سمية فيها شيء مقزز منفّر، شيء لا تعرفه كلتوم، جعلها تتضايق من وجودها وتحس أنها عاهرة ستأخذ أخاها وما مع أخيها من منافع.
كرهت كلتوم سمية كره ضرة لضرة، وأعلنت عليها حربا باردة.
أحصت ما ظهر من عيوبها وما بطُن وعرضتها مرتبة ملونة على أخيها.
تذكرت كل عيوب حوسين وعيوب أمه ونبهت سمية إليها وخوّفتها وحذرتها.
عرّت الإثنين فخدمت الإثنين. عرفا بعضهما جيدا فتزوجا.
زُفت سمية لحوسين في فندق ميرالولو بعد حفل متواضع في منزل خالها، وعادت لبيت حوسين في اليوم التالي ودخلت كأنها تلجه أول مرة، عيناها في الأرض من شدة الحياء وكعب حذائها الفضي و" شِنْيونها" في السماء، وخلفها حقيبة كبيرة وباقة ورد بائسة وصومعة قصيرة من هدايا.
لم تمزّق صور النساء التي كان يحتفظ بها حوسين في هذا الدرج وتلك الخزانة وذلكم البزطام ، لم تغير مفتاح غرفة النوم الموجود نظيره عند كلتوم وأم كلتوم وربيعة أخت كلتوم. لم تغير إلا أشياء لا قيمة لها: ڭرفطت حوسين ولمّعت حذاءه، أدخلت "المسكوتة" بالعسل والجلجلان والحبة السوداء لمائدة إفطار الأحد، حذفت مسبح المرق من وجبات الغذاء والعشاء وملأت بصور حوسين الجدران لكي يرى الزائرون حوسين في كل مكان، وأدخلت الغناء لجنبات البيت وأتحفت كلتوم بدندنتها كل صباح " راه دّيتو راه دّيتو يا للا على زينو راه دّيتو ويلا دّيتو غزّيت....".
انتقلت الحرب من باردة إلى دافئة حينما سمّت سمية الغرفة الكبيرة "بيت كلتوم" أي دحرجت أخت حوسين من قمة "مولات الدار" لحضيض "مولات البيت".
وكعقاب جاءت كلتوم بابنها من طليقها ليسكن معها غرفتها وليخرب الصالون والثلاجة وحقيبة سمية.
وكرد فعل خبيث، دللت سمية العفريت وعلفته ونفخته بالدهنيات والسكريات والعجائنيات والبطاطسيات وهشمت أسنانه بالحلويات الرخيصة وذكرته كل يوم بأبيه الطيب المسكين وجدته الجليلة.
انتقلت الحرب من دافئة إلى ساخنة حينما ألغى حوسين أجر كلتوم الشهري الذي كانت تأخذه، مقابل العناية به، وأصبح نصيبها من الكفيف، الموسر في نظرها، مجرد "تدويرة" استثنائية بمناسبة العيد أو نوبة البواسير.
دافعت كلتوم دفاعا مشروعا عن النفس وصعّدت ورمت ضارّتها بكل ما لا يجوز أن ترمى بها المحصنات.
قالت لأمها ولأخواتها أن الصوبّيصة سمية تشهر فخذيها في كل جلسة وتلبس سروالا لاصقا شفافا سَلمونِيّ اللون، قالت أنها تغمز كل الرجال باليمنى واليسرى، قالت أنها دخلت دار نبيل جارهم في غياب لطيفة زوجته وحين عادت للبيت استحمت.
قالت أن وراء زواجها السهل السريع من حوسين، الذي لولا تضحية وصرامة أمه وأخواته لما استفاد من نعمة فقدان البصر، سر من الأسرار.
ظل الكفيف، الفاجر الذي لمعاشرته العديد من المنزهات عن الفجور، لا يؤمن بعفة النساء وإخلاص الأصدقاء، أصما إزاء نغزات التحريض وظل متزنا في تعامله مع زوجة تعطيه إحساسا بأنها متخمة مكتفية به، زوجة تخدمه ليلا ونهارا خدمة لم يسبق لامرأة أن متعته بمثلها.
انتقلت الحرب من ساخنة إلى ساخنة جدا حين جهرت سمية بحملها.
من قال أن ما في بطنها من ماء حوسين؟، حساب كلتوم بالدقيقة يقول انه، قبل الثلاثة أشهر، كان أخوها مسافرا وأنها، هي كلتوم، كانت تتغيب وأن نبيل، جارهم في الطابق الأسفل، كان ملازما البيت في حين كانت لطيفة زوجته في بوفكران إثر موت ابيها.
عرف اللئيم حوسين كيف يتأرجح بين أسرته الوصية عليه وبين زوجته خادمته.
انتقلت الحرب من ساخنة جدا إلى حامية حين استقرت "مّي يزة"، والدة سمية في البيت بدعوى العناية بابنتها في الأيام الأخيرة للحمل.
رحب حوسين بحماته فغادرت كلتوم البيت غضبا.
- شوف، واخّا متتشوفش، واش مّك يزّه غدي تدوم ليك، والله حتى يمصّوك.
- خليهوم يمصوني ويلحسوني، أنا پُّولو...
ولدت سمية، في التاريخ الذي ترقبته كلتوم وأعلنت عنه من قبل، ولادة طبيعية في مصحة سيدي عيّاد وزارتها هناك كلتوم وربيعة وللاشريف والدة حوسين وباركن لها وقبّلن الصبية، واقترحن إسم " فضيله" إكراما للجدة المتوفاة ورجعت المياه إلى مجاريها النتنة بعد عقيقة نسرين.
نسرين، هكذا سمّت سمية ابنتها إكراما لبطلة قصة قرأتها في الابتدائي.
- واش ولدات عروستكم بالسيزاريان؟
- ويلي، علاه لمشرڭات تيولدو بالسيزاريان؟
- واش لاباس على حوسين؟
- غير خليها عل الله، مصيبه، راجل هاز الڭفه ودايراه لمرا غير دفّه.
- مهلّي بعدا فمّيمتو؟
- والله ما بقى تيعتقها بشي فرنك، مانحلفوش على الفشفاشه ديال الضيقه، وداك المش اللي شرا ليها نهار العيد.
- آش خبار نسرين أكلتوم؟
- شكون شافها، راه لبنيه مليوحه عند الجيران وامها معريه راسها، ودايره طوموبيل وباغيا تطير.
قصفت كلتوم حصن سمية من بعيد ولاكت حكاية أب نسرين الحقيقي معتمدة على تاريخ ولادة نسرين وعلى عدم وجود أي شبه بين أنف الطفلة وأنوف العائلة.
انتقلت الحرب من حامية إلى حارقة حين تزوج عبد الغفار، طليق كلتوم، أخت سمية العانس.
توجهت كلتوم ذلك اليوم لبيت اخيها في حالة جنون علني ودخلت وعيّرت وكسرت وهددت ولولا عضلات الحاضرين والحاضرات لافترست سمية .
- والله يا الصوبيصة السايبه يا السحّاره يا بنت القادوس يا خطافة الرجال حتى نخوّر ليك العينين وشوفي اللي يقودك ويڭودو. وانت ياحوسين يا نكّار الخير مانا ختك مانتا خويا، وهداك العبد.......الغدار غير طليوه.
انتقلت الحرب من حارقة إلى ناسفة حين حصلت كلتوم على الحجة التي لا حجة بعدها والتي تدين سمية بتهمة الزنا والخيانة العظمى والتزوير في الحالة المدنية.
لا أحد يدري من أين وكيف جاءت بصور لزكية ابنة نبيل، حين كان عمرها ثمانية أشهر، وجاءت بصورة نسرين إبنة أخيها ذات السبعة.
سبحان من خلق من الشبه على الأقل اثنتين، نقطتا ماء، توأمتان حقيقيتان، ابنتا نبيل لا شك يقبل من مُشككٍ.
- هانتوما بلا لابوراطوار بلا تحاليل جبت للفاسده بنت الفاسده التمام.
- مسكينه ديك الملايكه، ما دارت والو؟
- ملايكه ما ملايكاش، دنوب نسرين على امها.
- نڭولو لحوسين؟
- نفرڭعو الدلاحه ياختي، السكات عل لحرام حرام.
نقلت الكاميرات بالصوت ما جد في الحكاية القديمة لحوسين وتدفق الخبر وساح وترقب الكل الانفجار وشظايا الانفجار.
جلس حوسين في "بيت الصابون" الموجود فوق السطوح حيث كان ينعزل ليدخن بعيدا عن سمية وعن الطفلة نسرين، اعتكف عشية السبت كله وعاد الأحد ليعيد مرارا شريط علاقة أسرته بأسرته.
صعدت لطيفة كعادتها لنشر الغسيل مصطحبة ابنتها المرحة ذات السنتين.
- حوسين
- لـ طـيـ فه
- ما زال ما فرقوك مع سميه؟
- هدوك بيهوم غير لفلوس
- وحتى انت قطعتي عليهوم الما والضو...
- درتي الحجاب ألطيفة؟
- درت الفولار بحال كولشي، حتى واحد الروسيه معانا فالخدمه تحجبات
مد يده نحوها كمن يريد نزع حجابها
- الحجاب فالدار؟، ومعايا أنا اللي متنشوفش؟
- نعل الشيطان أحوسين، ياك ڭلنا تدير عقلك
شد يدها
- والله إيلا توحشتك وبغيتك وما عندي عقل
- نعل الشيطان أحوسين زكية تتشوف
شد حوسين رأس الطفلة وضمها كما يضم أب ابنته وباسها وقال لها همسا:
- واش عرفتي يا زكيه باللي عندك واحد ختك من باباك، غزاله بحالك سميتها نسرين، وكتشبه ليك بزاف.

محمد حساين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى