أمجد ناصر - متاهة الملك العربي..

كحلمٍ، أو رؤيةٍ، زرت تلك الواحة. لا أعرف متى حدث ذلك، إن كان قد حدث فعلاً. تختلط على المرء، أحياناً، التواريخ والصور، الوقائع والأحلام إلى حدّ التشوّش. برهاني الوحيد على واقعية تلك الزيارة صورةٌ تجمعني بعدد من الأشخاص، في خلاء رملي يتراقص فيه سرابٌ كماءٍ كذَّاب. كأننا كنا في رحلةٍ، أو مهمة عمل، لكني لا أعرف هؤلاء الأشخاص، ولم يكن لي، يوماً، عملٌ في الصحراء. كيف تسنّى لي أن أقوم برحلةٍ مع أشخاصٍ لا أعرفهم، لا يعنونني في شيء؟ لا أعرف كيف حصل ذلك. إنه حلم إذن.

***
بالقرب من تلك الواحة تبدأ الصحراء الرهيبة. من يغادر الواحة التي لم تعد محطةً على طرقٍ خالية من الحياة كما كانت من قبل، فسيعرف ماذا تعني الصحراء. ماذا يعني الفراغ الهائل الذي لا تنبت فيه شجرةٌ ولا يرتفع، في عرائه، ظل. في تلك المتاهة لا تنفع العلامات. الصحراء مثل البحر. فمن يضع علامةً في البحر؟ بأيِّ شيء تهتدي في تلاطم المياه وانفتاح الأفق على المجهول؟
أتحدَّر، شخصياً، من بلدةٍ صحراوية، لكن ما نسميه في بلادنا "صحراء" ليس شيئاً قياساً بتلك الصحراء التي بدت في الصورة، أو التي رأيتها في الحلم. هنا يستعيد الفراغ سلطته الأولى. يخرج المرء من عمودية البناء، من حركة السابلة، من تزاحم العلامات التجارية فاقعة الألوان، من تدفّق السيارات في شرايين المدينة، إلى الفراغ المنتظر أبداً بلا لهفةٍ، بلا استعجال، ضيوفه الطارئين. الفراغ سيّدٌ. العمران يزحْزحه، بهمّة الجرّافات والإسمنت والحديد المسلح، عن عرشه. يدفعه إلى الوراء، يرمي في أحشائه عضائد الخرسانة، لكنه، مع ذلك، يظل موجوداً.
إن كنت قرأت قصة بورخيس "ملكان ومتاهتان"، ستدرك ماذا يعني أن تضيع إلى الأبد من دون أن يعثر عليك أحد، فأين متاهة الملك البابلي النحاسية التي أمر كلَّ مهندسيه وصُنَّاعه ببنائها من متاهة الرمل الإلهية هذه؟

***
كان ملك بابل قد طلب من مهندسي بلاده وصُنَّاعها المهَرة أن يشيدوا متاهةً من نحاس، أكبر وأعقد متاهةٍ عرفها العالم، ففعلوا. بعدما أتمَّ بناء متاهته النحاسية، دعا العاهل البابلي ملك الجزيرة العربية إلى زيارته. أراد، على ما يبدو، أن يسخر من ضيفه العربي، بل أن يذلَّه، فطلب منه دخول المتاهة. قضى الملك العربي يوماً كاملاً حائراً ذليلاً بين قضبان النحاس وممراته المفتوح بعضها على بعضٍ إلى ما لا نهاية. وفي المساء، دعا ربَّه أن يخرجه منها، فألهمه الله سبيل الخروج. لم يقل الملك العربي لنظيره البابلي شيئاً مما اعتمل في صدره، فعاد، بحسب القصة، إلى بلاده. حشد جيشه وغزا بابل. مسح قلاعها عن وجه الأرض. حطّم قصورها. أسر ملكها وحمله مقيَّداً على جملٍ سريع إلى الصحراء. بعدما توغل الملك العربي ثلاثة أيام في الصحراء، قال للملك البابلي: يا ملك الزمان وجوهر العصر والأوان، لقد أردت أن تذلني بمتاهتك النحاسية التي أشهد أن لا مثيل لها، ولكن العلي القدير شاء عكس ذلك.
وهما في قلب الصحراء التي لا علامة فيها تدل على اتجاه أو طريق، حلَّ الملك العربي وثاق الملك البابلي وتركه، حرَّاً، في ذلك العراء المطلق.

***
هذه قصةٌ قرأتها في كتاب. ولكن، ماذا عن الصورة التي تجمعني بأشخاصٍ في قلب المتاهة الرملية التي ضاع فيها الملك البابلي إلى الأبد؟ أهو حلمٌ حلمته بعدما قرأت القصة؟ أم هي الأثر المادي الملموس على رحلةٍ قمت بها إلى تلك الصحراء مع أشخاصٍ امَّحت وجوههم وبقيت، في رأسي، ذكرى العطش؟ ذكرى زجاجة المياه التي أوشكت، بعد ساعةٍ من التوغل في الصحراء، على الغليان.
لا أدري.
ما هو مهمٌ أنَّ المتاهة الأشد قد تكون منسوجةً من حبات رمل. ليس على الملك/ الحاكم/ سلطان لحظته وزمانه/ أن يغتّر بحديده الجرار، وقضبانه الملتفّة، فقد يصبحان له سجناً وقيداً.


15 مايو 2017

العربي الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى