جعفر الديري - رحلات الغوص.. سيرة الأجداد السمر على سواحل الوطن

البحر هذا الجبار المتمرّد، الذي يمتدّ إلى مرمى البصر، لم يزل الإنسان البحريني أسير أمواجه وزرقته، أولئك الذين اختطفهم واحداً تلو الآخر، كانوا يعرفون خاتمتهم جيداً عندما ركبوا السفن الشراعية، وكانت قد وصلتهم القصص والحكايات المليئة بالخوف والرهبة عن الربابنة والغاصة والسيب، كل أولئك الذين سبقوهم للجة المحيط، ومع ذلك كانت رائحة البحر الأوكسجين الذي يهبهم الحياة، وذكريات الليالي التي يزينها القمر سلوتهم التي يقطعون الوقت في تذكرها، وتفاصيل التعب اليومي زادهم الذي يشعرهم أنهم أقوى من أي شيء!.
المرحوم السيد علي السيد حسن الديري، نموذج للبحارة الذين تغرّبوا فجابوا البحر بحثاً عن لقمة العيش، عاش كما عاش أقرانه تجربة الابتعاد عن الوطن، وتحسس عن قرب شعور الإنسان وهو بعيد عن أهله ووطنه وسط محيط هادر ليس للإنسان إزاءه سوى التسليم لمشيئة الله تعالى، يقول السيد علي «عشت كما عاش أقراني على البحر، إذ كان يشكل لنا مصدر الرزق الوحيد مع بعض الاستثناءات بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون المزارع والدوالي، فالبحر لم يكن يوماً غريباً عنا، فقد نشأنا وتربينا فيه وكبرنا وأصبحنا رجالاً بفضل خيراته، لذلك ما أن يبلغ أحدنا أشده حتى تكون لديه رغبة كبيرة في أن يصبح بحاراً. كان عمري عندما قررت العمل على ظهر السفن خمسة عشر ربيعاً، وهو سن لا يؤهل للعمل غواصاً، لأن وظيفة الغواص كانت أكبر مرتبة من وظيفة «السيب»، التي لم أكن مؤهلاً لها أيضاً، لذلك عملت نصف سيب، والفرق بين الاثنين أن نصف السيب يأخذ نصف ما يتسلمه السيب من مال نظير عمله».

4 أشهر في البحر

يواصل السيد علي حديثه قائلاً «مع دخول فصل الصيف، يكون النواخذة -وهم ربابنة السفن وقتها- أكملوا عدة السفر والغوص على ظهر مراكبهم، إذ تكون سفنهم جاهزة وطاقمها متكامل وكل ما يتعلق بها متوافر، فتبدأ الرحلات طوال أربعة شهور بين الذهاب والإياب بهدف أساسي هو البحث عن اللؤلؤ إلى جانب السمك الذي يعتاش منه البحارة أنفسهم في عرض البحر، لذلك ما أن نصل إلى منطقة يغوص الغواصون فيها ويخرجون بالمحار فلا يجدون فيه شيئاً من اللؤلؤ حتى يأمر النوخذة برفع السن بقوله «فوق» فيتعاون على رفعه ثلاثة من الرجال الأشداء، لتتجه السفينة إلى منطقة أخرى، وهكذا دواليك».
ويشير السيد علي إلى أن عدد العاملين على السفينة يختلف بحسب سعتها، فقد يكون عدد الغواصين عشرة وأحياناً اثني عشر ويصلون إلى عشرين غواصاً، بينما يكون عدد السيب متجاوزاً لعدد الغواصين، وهناك أيضاً الطباخ الذي لا تتغير وجبته عن الرز المحمر غالباً، والمجدمي الذي كنا نعبر عنه «بشاطر السيوب» كان في الوقت نفسه نائباً للنوخذة، هذا إلى جانب النهامين الذين كانت أصوات غنائهم وهم يغنون الزهريات مهمة في تيسير العمل بدقة ونظام، وصباغ السفينة والنوخذة الذي هو صاحب السفينة والمال والمشرف العام على العمل، والمتحكم في أرزاق من معه، لكن المعتمد في العمل هما الغواص والسيب، فأما الغواص فإنه يضع «الشباص» على أنفه اتقاء لدخول ماء البحر إليه، ويمسك بـ»الديين» ويغوص في البحر بحثاً عن اللؤلؤ وعن الأسماك في «القرقور» حتى إذا خرج جمع البحارة المحار وبدؤوا بفتحه فإن ظهر منه لؤلؤ أعطوه للنوخذة وإلا فانصرفوا إلى أعمالهم في حين يتناول الطباخ السمك فيجهزه للوجبات والباقي يعمل منه «حلا»، بينما يقوم السيب بالإمساك ومراقبة الحبل المربوط في إبهام الرجل اليمنى من الغواص كي لا يغرق.

الغواص رجل المخاطر

يؤكد السيد علي أن الغواص كان رجلاً مخاطراً، فهو يعلم أن البحر لا أمان له، فماذا لو ظهر له «جرجور»، وماذا لو علقت رجله بنبات من نبات أو صخور البحر؟ ثم إن هناك حالات وإن كانت نادرة تسببت في غرق الغواص خطأ، فأكبر خطأ يمكن أن يرتكبه السيب هو غفلته عن الحبل الذي يربطه بالغواص، فمعنى ذلك اختناق الغواص في عرض البحر وموته، وفي الغالب لا يترك السيب مكانه إلا متى ما أمره المجدمي أو النوخذة بعمل آخر، فهو غير مسؤول عما يحدث بعد ذلك، كما إننا كنا إخوة وأبناء منطقة واحدة، فلم نكن لنحدث المشكلات ولم نكن لنفكر في أن أحدنا ترك الحبل عمداً أو بقصد القتل، حتى أهل الفقيد لا يلومون السيب المعني الذي يحضر الفاتحة ويشارك في العزاء ويتلقى التعازي شأنه شأن أهل الفقيد، فقد كانت القلوب وقتها قلوباً مؤمنة موكلة أمورها لله سبحانه.
ويذكر السيد علي أن العمل كان ينتهي مع اقتراب أذان المغرب، «إذ يكون الرز جاهزاً مع السمك المشوي، فنقوم بالصلاة والدعاء ثم نتناول وجبتنا الأخيرة في كل يوم، بعدها يكون أكثرنا قد أخذ منه التعب كل مأخذ لذلك يبادر بالنوم على «خيش» أو بساط بسيط، وآخرون وهم قليلون يجتمعون عند «التفر» في مؤخرة السفينة، يتبادلون الأحاديث والقصص.
ويتابع السيد علي حديثه متعرضاً لبعض ملابسات حياة البحارة «كان لباس البحارة ما عدا النوخذة الذي يلبس الثوب تحته إزار، الإزار فقط ، فصدورهم لم يكن يغطيها شيء ليس هذا وحسب، بل كنا جميعاً نحاول ما أمكننا مقاومة المرض لأن المرض على ظهر السفينة كان شاقاً جداً، ولهذا كان النواخذة يختارون الأجسام القوية القادرة على مقاومة الأمراض، ومازلت حتى هذه اللحظة أتذكر بضع كلمات لأحد النواخذة يقول فيها: «لا تتمارضوا فتمرضوا فتخسروا فتكونوا من أصحاب الجحيم»، وهذا كلام يدل على شدة وقسوة النوخذة في التعامل مع البحارة المرضى. أما مع اشتداد المرض بأحد البحارة، فهنا لا يكون أمام النوخذة مفر من العودة إلى الديار لإرجاع المريض إلى بيته، والحقيقة أن رجوع المريض إلى بيته جراء تدهور صحته كان في صالح البحارة الآخرين، الذين يستطيعون بهذه العودة رؤية عوائلهم بعد انقطاع، إذ غالباً ما يهب النوخذة يوماً إلى البحارة للركون إلى بيوتهم وعوائلهم، على أن يراهم في فجر اليوم التالي، إذ لم تكن هناك راحه لمن كان على ظهر السفينة وإنما كدح وتعب، ولكن متى ما كانت هناك رياح شديدة يخشى منها على السفينة وعلى البحارة، يذهب بالسفينة إلى البندر.
ويضيف السيد علي : إن من «دش» البحر لسنوات عدة يعرف تغير الطقس والموج، لذلك ما أن يلمح البحارة الغيوم، الغيوم بعينها حتى يدركوا أن السماء في طريقها إلى عاصفة، لذلك يسارعون فرحين بإخبار المجدمي برغبتهم في التوجه إلى البندر، والأمر منوط هنا بالنوخذة الذي يحكم رأيه في أحيان كثيرة ويكمل العمل أو يأذن براحة قصيرة، «التفر»: وهي مؤخرة السفينة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى