شهادات خاصة جعفر الديري - عبدالكريم البوسطة.. ذاكرة بحرينية قوامها بحر ونخلة.. حوار مع فنان تشكيلي

تشكل الحركة التشكيلية جزءاً مهماً من الذاكرة البحرينية. ويرى كثير من المختصين أن تجربة الرواد أزهى التجارب وأكثرها نضوجاً في تاريخ الحركة التشكيلية في المملكة. ولم تقف أهمية جيل الرواد عند حدود التأسيس للفن التشكيلي فحسب، وإنما تعدت إلى الآفاق الأرحب التي عبرت عنها ريشتهم وألوانهم، وإلى تأثيرهم على من جاء بعدهم من هواة هذا الفن البديع. فكل ما حققته الحركة التشكيلية البحرينية من تميز وحضور جاء نتيجة التأسيس الذي قام به هؤلاء المخلصون. وتزيد من هذه الأهمية أن الظروف وقتها لم تكن ملائمة والنظرة إلى الفن التشكيلي كانت نظرة دونية ومع ذلك كان الإصرار حافزهم إلى العطاء بلا حدود.
يعتبر الفنان التشكيلي الراحل عبدالكريم البوسطة أحد هؤلاء المخلصين الذين تعدى الفن عندهم مجرد الهواية إلى أسلوب حياة متجددة العطاء وخصوصاً أنه زاول مهنة التدريس ولم يبخل بشيء من معارفه ورؤاه في تعليم الأجيال من الفنانين الذين تخرجوا على يديه وأيدي زملائه الرواد.
الراحل عبدالكريم البوسطة أحد رواد الحركة التشكيلية في البحرين، ولد العام 1940 وتوفي السبت 17 ديسمبر 2011، وكان أحد مؤسسي جمعية خزافي البحرين. أقام 6 معارض فردية في البحرين، وشارك في كافة معارض وزارة الثقافة من المعرض الأول 1972 حتى العام 2010، إلى جانب مشاركته في العديد من المعارض الخارجية في كافة عواصم الوطن العربي وأوروبا وآسيا، وشـارك في معرض اتحاد الفنانين العـرب في المغـرب والكـويت ودولة الإمارات وسلطنة عمان ودولة قطر والمملكة العربية السعودية، وشارك فـي الأسابيع الثقافية فـي كل من: تونس، المملكة العربية السعودية، دولة قطر، لبنان، سنغافورة، الأردن، بنغلاديش، والصين، وشارك في مـعارض فردية مع الفنان خليل الهـاشمي والفنان ناصـر اليـوسف والفنان عبدالله يوسف، وشارك في معرض بينالي القاهرة الأول والثـاني والثـالث والرابـع والخامس والسادس، شـارك في معارض خـزافي البحرين، واختيرت تجربته الفنية موضوع بحث لنيل شهادة الدكتوراه التي تقدم بها حسن سعيد بجامعة السوربون بفرنسا ونالها بامتياز مع مرتبة الشرف العام 2010، وحصل على عدة جوائز منها، جائزة تقديرية في معرض البحرين للفنون التشكيلية السادس والعشرين.

الرسم هاجس مسيطر

عبر لقاء أجريته مع الفنان قبل انتقاله للرفيق الأعلى. قال عبدالكريم البوسطة «إن الفرد منا يعيش ضمن واقع يكون له تأثير كبير على إحساسه ورؤاه فيثير فيه نوعاً من اللغة تترجم بعدة أمور وخصوصاً مع البدايات، فيمكن أن يعبر عنها بحركات بهلوانية أو مغامرة وربما يعبر عنها على شكل أصوات، ولكن بالنسبة إلي كان الرسم الهاجس الذي سيطر على مشاعري، فكنت أشعر حينما أمسك بقطعة فحم وأرسم بها على الجدران لتتكون صورة ما، أن هذه الصورة كانت تشعرني بكياني الخاص إذ استطعت تكوين شيء من خلال هذه الخامة، طبعاً كانت هناك تأثيرات أخرى للبيئة التي عشت فيها، فوجودي في قرية رأس الرمان في زمن الغوص والبحر ونشاطه، مع رؤيتي للبحار وصلابة وسمرته ومغامراته وبعد نظره حينما يقف عند البحر، وينظر إلى السماء وإلى امتداد البحر، وما كنت أشعر به وقتها من ثوابت بين الظل والصورة، بما كان يمنحني من الشخصية الانفعالية التي لاتزال مستمرة، وهي عملية حركية ديناميكية، في التأثير على المشاهد، كل هذا يعتبر مثيراً من مثيرات المشاعر، وطبعاً مع مرور الزمن وبفعل التواصل تبدأ الخصوصية هنا بالتكون».
وأكد البوسطة أن «رواد الحركة التشكيلية لهم دور حقيقي كبير ومهم، فاستمرار الحركة التشكيلية في البحرين هو نتاج تأسيس البذرة الأولى، لأن الرواد هم من بدؤوا شيئاً اسمه الرسم، والرسم على لوحة الحامل تحديداً فهم الذين حملوا مسؤولية الحركة وتحملوها، في الوقت نفسه لم يعش هؤلاء الفنانون داخل المراسم الخاصة بهم بل اتخذوا من الطبيعة المرسم والحوار، متعلمين منها كل ما يحتاجه الفنان من ألوان وظلال إلى منظور إلى نسبة إلى تكوين إلى تصميم، فمن هؤلاء الفنانين انطلقت شرارة الحركة التشكيلية في الوقت الذي كانوا فيه يعانون من بعد المناطق التي كانوا يقصدونها والنظرة الدونية والتوجس الذي كانوا يقابلون به، فقد كان بعض الناس ينظرون إليهم على أنهم يقصدون إزالة بيوتهم، بينما البعض الآخر كان ينظر إليهم بترحيب حين كانوا يفهمون مقاصدهم في تسجيل هذا التراث ليبقى هذا الأثر في اللوحة التشكيلية كما هو في الصورة الفوتوغرافية، وهؤلاء الفنانون تعلموا من ذواتهم فحولوا اللوحة البيضاء إلى لوحات لونية، فالرواد أسسوا لكل هذا وذهبوا إلى جميع المناطق من قرية إلى مدينة إلى مقهى إلى كل مكان فيه حيوية ونشاط. وهناك بعض الفنانين الذين ذهبوا إلى الخارج وجاءوا بتعليمات جديدة ومعاصرة ولهم دور كبير في الحركة التشكيلية إلى جانب الرواد، ولكن أساس كل ذلك هم الرواد».
وحول رأيه بالحركة التشكيلية الحاضرة اليوم في البحرين، أشار البوسطة إلى «وجود مجموعة من الفنانين أرادوا الحفاظ على نوع معين تكون له طبيعته الخاصة التي تتخذ المشهد من الطبيعة، ولكنهم لم يقوموا فقط بنقل المنظر الطبيعي بل إن بعضهم أضفى عليه اختزالاً ولوناً معاصراً والبعض الآخر بدأ بالبحث عن ذاته ونشاطه الفكري وحاول أن يبرزه بنوع من المعاصرة أو لغة العصر، فالفنان هنا يبحث عن أسلوب يتوافق مع شخصيته الخاصة فأصبحت له رؤية معاصرة جعلت له لوناً من التصميم والعمل الفني المغاير، وهناك فنانون بحرينيون أجادوا في ذلك، وما يشهد على ذلك أن هناك مشاركات مهمة لهم خارج البحرين، والعالم المعاصر يستجيب لها، إذا أنت في تطور فلا تشعر أنك متخلف عن الفنان العالمي في بيئته أو بلده، فالفنان البحريني هنا مع إبرازه وتحقيقه بيئته وكيانه يبرز هذه المعطيات، والأدوات في تحصيل اللوحة بتشكيلة معاصرة تتوازن مع اللوحات العالمية في كل مكان في العالم. الوسائط الفنية الجديدة كأفلام الفيديو والتصور والرسم عن طريق الإنترنت».
ورأى الراحل أن «بعض الأعمال الفنية لا يحتاح اليوم إلى موهبة بل تحتاج إلى تحقيق فكرة وهذه الفكرة لها جمالها الخاص، وأعمال الفن التجميعي أو التركيبي أو الفيديو تحتاج إلى فكرة والفكرة تخلق لها عالمها الخاص ولكن بأدوات مطروحة نستخدمها نحن جميعاً كبشر فيكون لها تأثيرها كما حدث مثلاً لفنان من السويد حينما صنع حوضاً من الماء ذي لون أحمر ووضع فوق سطحه صورة استشهادية فلسطينية فأثار هذا العمل السفير الإسرائيلي، والفنانون القائمون على هذه الأعمال مثل أنس الشيخ أعمالهم محترمة ولها دور فكري وسياسي، فهي أعمال تحتاج إلى تراكم المعلومات بحيث إن هذا التراكم لا يصبح مجرد شيء ينظر إليه بشكل فارغ».
ولم يعتبر البوسطة المناهج الدراسية المتعلقة بالتربية الفنية، مناهج «بل برنامج أو دليل يوصل نوعاً من الإيضاحية الفنية»، مشدداً على وجوب «أن يكون هناك تركيز على المادة النظرية إلى جانب العمل، بحيث تكون هناك لجنة من المدرسين البحرينيين الذين يجب عليهم وضع برنامج مدروس دراسة جيدة، فالنظرة السابقة إلى مدرس التربية الفنية في كونه مجرد معلم للرسم لاتزال قائمة، فيجب أولاً أن تكون هناك رؤية صحيحة تجاه المدرس لكي يستطيع العطاء».
وحول ولع البوسطة برسم الحصان؟ قال البوسطة «إن جدنا كان يمتلك حصاناً أبيض جميل الشكل، حصان عربي أصيل، فترك ذلك أثره وترسب في جيناتنا، فوجدنا أن الحصان هو أجمل الحيوانات في السرعة والمنفعة والقوة والجمال، وكل جزء من الحصان له علاقة بتكوين الحصان نفسه، وكلها معالم فنية فلسفية، فهذا الحصان يهز دائماً مشاعرنا، وهو نبراس مهم في مجال تحريك هذه الصفات في حياة الإنسان والرسول الكريم (ص) يقول: (الخيل معقود في نواصيها الخير)».

مراحل فنية متنوعة

تحدث الراحل البوسطة في الملتقى الثقافي الأهلي، عن أهم المراحل الفنية التي مرت بها تجربته الفنية، وبين أن المرحلة الأولى هي مرحلة الهواء الطلق حين يواجه الفنان الطبيعة وجهاً لوجه «كانت أول محاولة لي بهذا الخصوص في العام 1962 في منطقة أم الحصم حين كان لي وقتها أول لقاء مع الطبيعة في تحد بصري أمام كوخ اسمه كوخ حسن في أم الحصم، إذ بدأت مرحلة اللون والتخطيط، ولكن بسبب الطقس السيئ تغيرت ملامح اللوحة فلم تعد تعبر بألوانها عن البساطة والهدوء وإنما تحولت الألوان إلى عنفوان من ناحية اللون وتراجيدية الخط وكأنها ألوان معارك حربية فجعلت أتأمل فاكتشفت أن سبب ذلك راجع إلى الضوء فبوجود الضوء يوجد اللون ويكون الظل متمماً للضوء، إذ علمت وقتها أن الألوان أساس الضوء على اعتبار أنه يجسد معالم الأشياء، وذلك ما دفعني إلى التأمل في اللون البحريني في البيئة فوجدت فيه خصائص معينة فهو لون يأخذ الصبغة الرمالية، فأردت الوصول إلى اللون الطبيعي لكي أتعرف على درجات ترتيب اللون لأن طبيعة المناخ تلعب دوراً في اللون فطبيعة الشمس لا تجعل اللون في شكل ثابت وكذلك الأملاح التي تتمتع بها البحرين لها تأثير، كذلك الرطوبة فهذه العوامل الثلاثة تؤثر في طبيعة اللون ومعنى ذلك أنه علي أن أبحث عن الألوان التي تتناسب مع الطبيعة وإذ ذاك يحتاج مني اللون إلى ثلاثة أشياء الثابت والمحايد والضامر، وأعني بالثابت اللون الأساسي الأزرق كلون السماء والمحايد هو اللون الأبيض باعتباره لوناً يدخل مع جميع الألوان أما الضامر فيعطيني تغييراً لدرجة اللون لأنه سيكون لوناً صارخاً لا يتناسب مع البيئة وحتى لو مزجته مع اللون المحايد فسيعطيني درجة ناقصة فيجب عندها أن أكمله بلون يخفف اللون».
وعن المرحلة الثانية، أشار البوسطة إلى أنها مرحلة الإنسان، «انتقلت بعد المرحلة الأولى إلى مرحلة الإنسان وهو من المخلوقات الحية الناطقة، والذي له تاريخه وله صفاته المعينة في حزنه وألمه وفي تقلباته ومشاعره وركزت هنا على دراسة تشريح الجسم ودراسة أعضائه فوجدت أن الصعوبة تكمن في اليد والقدم إذ إنك عندما ترسم يجب عليك أن تحسب الأصابع كي لا ينقص إصبع واحد فإذا لم تحسب النسب بين الأصابع يظهر الجسم كأن به إعاقة. فهذه الأجزاء الثلاثة ضرورية للغاية إلى جانب العينين اللتين بهما سحر الجمال واللغة، والتي يمكن أن تعني ما بداخلهما كما قام دافنشي في الموناليزا بتحويل العين إلى بؤرة في مركز واحد فجعلها تنظر إليه أين ما اتجه وكان يقصد الأنا الخاصة به فهي تحتاج إلى دراسة عميقة وهي أمور أخذت مني وقتاً وسهراً طويلاً حتى حركت فرشاتي على وضعية خاصة بالإنسان من الناحية العقائدية والسياسية والاجتماعية فرسمت الإنسان العملاق، أصحاب الكهف، قصة آدم وحواء، سوق الحدادة وأم حمار وحاولت أن أضمنها كل هذه المعاني لكي تكون في اللوحة قراءة معنوية وتشكيلية تشد المشاهد فلا يشاهد جسماً جامداً وإنما جسماً متحرك به كل خصائص الفن».

الرطوبة ظاهرة حية

وحول ظاهرة الرطوبة قال البوسطة «إن ظاهرة الرطوبة ظاهرة حية ونعايشها كل يوم ولها تأثير حتى في تفكيرنا حين تتدخل فتشل التفكير وتجعل الفرد منا غير قادر على التفكير. فبدأت بدراسة الجدران القديمة وكيف أن الإنسان تكون له إسقاطات على المحيط الذي حواليه فتوصلت هذه الرؤية إلى ما بداخله من انفعال حين تتحول إلى شكل إنسان أو حيوان أو شكل قريب من عنصر موجود في الطبيعة، فنجد أن هذه الصورة تبين وتختفي وهي ظاهرة شغلت بالي كثيراً فلم يكن هناك بد من استعمال مواد تستعمل في تقنية الرسم فأدخلت مادة عضوية ومواد قلوية إلى جانب اللون وهذه المادة هي البيض والزلال».
ومتحدثاً عن عودته إلى الطبيعة والتغير الذي طرأ على نظرته إليها قال البوسطة: «عندما رجعت إلى الطبيعة لم أجد المنظر الشعبي البسيط الذي يجعلك تمشي بهدوء وراحة ومن دون إزعاج إذ إن الطبيعة انفضت فتغيرت من المنظر الأفقي إلى العمودي أي من السكن الأفقي إلى العمودي فتحول من نظام الشقق إلى عمارات وتحولت المواد من الجص والحصى والنورة والإسمنت إلى لوائح من الزجاج والرخام وتحولت الأعمدة من الإسمنت إلى أعمدة من الحديد وكل ذلك ترك أثره في نفسي وجعلني أنظر إلى ذكريات الماضي، فتحولت إلى السكين بدلاً من الفرشاة وبدأت الألوان تتحول عندي إلى لمسات سريعة من العدمية ليس بها وضوح بالنسبة إلى الوضوح الذي كان في السابق من ناحية البساطة، في الوقت نفسه تحولت عناصر الطبيعة إلى رموز مجردة فيها اختزال في اللون وغرابة في الشكل وإلى بويهميات فحتى الشجرة لم تعد شجرة حين أرسمها وإنما تحولت إلى رمز إيحائي يجعلك تطيل التفكير»

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى