أدب السجون صنع الله إبراهيم - يوميات الواحات

السجن هو جامعتي. ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة. وفيه ايضا قررت ان أكون كاتبا. أما أبي فهو المدرسة.

> > >
لكننا لم نهنأ بهذا الوضع طويلا فقد تصاعدت الأزمة المصرية العراقية. وعندما وقع انقلاب الشواف في الموصل في الأسبوع الأول من مارس انطلق احمد سعيد من " صوت العرب " يصرخ بطريقته الهمجية: "هيا ياعرب.. اجهزوا علي الشيوعيين الملاحدة.. طهروا التراب والتراث.. اقتلوهم حيث وجدتموهم". وفشل الانقلاب فخرجت صحف " أخبار اليوم " تعلن ان الشيوعيين يدوسون المصاحف ويقتلون رجال الدين ويسحلونهم في الشوارع وطالبت بإقامة مذابح للشيوعيين. وصادرت مصلحة الاستعلامات بسرعة كتب إلياس مرقص وأمين الأعور وغيرهما المعادية لـ" الشعوبيين " كما اسموا الشيوعيين. وعزل خالد محيي الدين عن رئاسة تحرير جريدة " المساء " التي ظلت تدعو الي ضبط النفس والحرص علي الوحدة الوطنية. وجري اعتقال اغلب محرريها. وفي العراق ايضا انزلق الحزب الشيوعي العراقي الي الحملة العصبية فرفع شعار " ماكو زعيم إلا كريم". وفيما بعد انتقد الحزب هذا الموقف.


> > >
نقلنا خبراء الأمن الي الواحات في قطار خاص بعد ان قيدونا الي بعضنا البعض بسلسلة واحدة تمر من ثقب في القيود (الكلبشات) التي يضم كل منها شخصين متجاورين. وكان من شأن هذه " الوحدة " المتينة ان من يرفع يده لشيء ترتفع ايدي رفاقه كلها معه، وكذلك شأنه عندما يرغب في التبول.


استغرقت الرحلة حتي سوهاج، ومنها الي الواحات، علي مبعدة حوالي ٠٠٤ كيلومتر من شاطيء النيل، عشرين ساعة دون طعام أو ماء لكني حظيت خلالها بمشاهدة قرص الشمس اثناء اكتماله وصعوده في الفجر، وبالاستماع الي صوت محمد علي عامر الأوبرالي وهو يغني "عالدلعونة عالدلعونة".

وكان في انتظارنا اللواء اسماعيل همت، المتخصص في الاستقبالات الدموية وحفلات التعذيب. وكان بيننا من " تخرجوا " علي يديه في معتقل ابي زعبل الأول سنة 1954 مثل أحمد الرفاعي وجمال غالي وعادل حسين ومحمد عباس وابراهيم عبدالحليم.

>>>
سرنا في الصحراء بين مدافع رشاشة مصوبة الي صدورنا الي ان ولجنا ساحة بها ثلاثة عنابر مستطيلة حديثة البناء من طابق واحد. وتألف كل عنبر من جناحين يضم كل جناح عشر زنازين كبيرة. وفي نهاية كل جناح دورة مياه بها خمسة محلات وثلاثة احواض لغسيل الوجه.


خصص العنبر الأول للمعتقلين الشيوعيين الذين صدر قرار من الحاكم العسكري العام او رئيس الجمهورية باعتقالهم دون توجيه اي تهمة لهم او عرضهم علي جهات التحقيق. وضم العنبر الثاني المسجونين الشيوعيين الذين صدرت ضدهم أحكام محددة بمدة معينة بعضهم ممن حوكموا امام محكمة الدجوي العسكرية. والبعض الاخر حكم عليه قبيل الثورة وعندما افرجت عن جميع المسجونين السياسيين في اول عهدها استثنتهم بعد ان ابتدع لها سليمان حافظ قانونا يعتبر الشيوعية جريمة اجتماعية وليست سياسية!

أما العنبر الثالث فقد أودع في أحد جناحيه الأخوان المسلمون الذين حوكموا في أعقاب محاولة اغتيال عبدالناصر في الاسكندرية. واحتل سجناء في جرائم غير سياسية الجناح الآخر وكان الغرض من وجودهم هو القيام بأعمال النظافة والمخبز والمطبخ. لكن الشيوعيين كانوا يرفضون ان يقوم احد غيرهم بتنظيف عنابرهم أو زنازينهم معتبرين ذلك نوعا من العبودية.

انتهي الاستقبال دون حادث لكن اليوم التالي حمل إلينا صراخ استنجاد وصوت السياط. وعلمنا فيما بعد ان همت اشرف قبل رحيله علي ضرب سيد ترك، احد المسجونين القدامي من قادة حدتو العمال، فوق "العروسة" الخشبية التي يشد اليها السجين من امام بحيث يصبح ظهره العاري تحت رحمة السياط الجلدية. واظن انها كانت تمثيلية متعمدة لارهابنا وبخاصة ان الشكوك حامت حول علاقة سيد ترك بالمباحث بعد الافراج عنه.

لكن الارهاب الحقيقي جاءنا من ناحية اخري. فقد خلق وجودنا بيئة مواتية لجحافل الذباب. ولم نلبث ان انخرطنا في أول معركة لنا مع الطبيعة. ولم يكن الأمر يتعلق بالصراع معها بقدر ما تعلق بالصراع مع انفسنا. وتلقيت احد الدروس المهمة في حياتي العملية عندما بدأنا حملة منظمة من اجل النظافة.

كان نفض البطاطين وكنس الأرضيات ثم مسحها وغسل أواني الطعام وتفريغ جرادل البول والبراز وتنظيف دورات المياه امرا صعبا لمن لم تؤهلهم تربيتهم لذلك. وعندما حان دوري مع زميل لي هو ابراهيم المناسترلي تسللت الي الفناء في محاولة للتهرب. ووجدت ان المناسترلي- الذي يكبرني بعقدين من الأعوام- قد سبقني الي الهرب. وكان هو من بذل جهدا خارقا للسيطرة علي مشاعره وتطويعها لواجب فرضه العقل فعدنا معا للقيام بالمهمة البغيضة.

> > >
لم نمكث كثيرا في الواحات، إذ جري ترحيلنا فجأة بعد أشهر قليلة الي سجن القناطر الخيرية ووضعنا في مكان منعزل وحرمنا تماما من فرصة الاختلاط بالسجناء العاديين والحصول علي الصحف منهم كما منعنا من استخدام المكتبة ومن الاستماع الي الراديو. وفوجئت بالصول العجوز أبورجيلة- الذي كان يتولي تدريبي في المقاومة الشعبية- مسئولا عن الطابق الذي أقمنا به. وكان يستمتع بأن يجلس في منتصفه علي مقعد وسط العنبر ويأمرنا بأن نقعي أمامه وفي مقدمتنا شهدي عطية.


كانت هذه فترة قاسية حقا. فالمكان شديد البرودة. وفراشنا مكون من برش من الليف وبطانية. وفرضوا علينا ان نضع هذا الفراش كل صباح خارج الزنازين التي تغلق علينا حتي المساء. ونقضي اليوم كله ونحن نقفز كالقرود التماسا لبعض الدفء وخلال ذلك نتبادل الحكايات. هكذا بدأت أتذكر احداث طفولتي التي انشغلت عنها بحاضري. وعندما انتهت الحكايات واستنفدت ذكرياتي انفتح المجال لأحلام اليقظة، وتأليف القصص. وتحولت كل حكاية سمعتها الي قصة فنية بعنوان مثير.

منعنا تماما من الكتب لكن لم يكن بوسع مدير السجن ان يرفض مطالبتنا بالكتب المقدسة. هكذا أتيح لي ان اقرأ التوراة والانجيل وأري العلاقة القائمة بين الكتب السماوية الثلاثة والتجليات المختلفة للحلم الانساني بالعدل والمساواة. كما ان الحكايات التاريخية في التوراة والقرآن روت عطشي الي القصص. ونشط خيالي في تطوير كثير منها.

> > >
في أواخر فبراير من العام التالي نقلنا الي سجن الاسكندرية للمثول أمام محكمة عسكرية بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم. وقبل المحاكمة بأسبوع نشبت مشادة بين احد ضباط السجن وزميل من الاسكندرية- حمدي مرسي -يهوي الملاكمة ويتميز بسرعة الانفعال. وجه الضابط السباب الي الزميل فرد عليه باللكمات. امر الضابط باغلاق الزنازين وتجمع الحراس فورا وامرونا بالخروج عرايا حيث انهالوا علينا بالضرب وتم تجريد الزنازين من محتوياتها من الملابس والأطعمة. وعندما اعادونا اليها وجدت نفسي في زنزانة مع احمد القصير وجمال غالي. وتعرف الأخير علي موسيقي بيزيه التي كان الراديو يذيعها. وفتح الباب مرة اخري ودخل حارس متجهم سكب فوق أجسادنا العارية جردل البراز والبول. تمخص عن ذلك تأجيل المحاكمة اسبوعا وتحقق الهدف من المؤامرة الصغيرة- والتي ثارت شكوك في انها كانت تمثيلية مدبرة- وهو الحيلولة دون حضور الصحفيين الأجانب فضلا عن المحامين الفرنسيين الذين ارسلهم هنري كوربيل للدفاع عنا.


> > >
تولي رئاسة المحكمة الفريق هلال عبدالله هلال الذي عزل بعد عدوان ٧٦٩١ بصفته أحد المسئولين عن الهزيمة. واستمرت المحاكمة ثلاثة أشهر بلغت اوجها بدفاع شهدي الذي اقر باعتناقه الماركسية وفي نفس الوقت اوضح موقف التأييد الذي اتخذته حدتو من عبدالناصر. وشهدت المحاكمة قمة اخري عندما وقف كمال الشلودي، احد المتهمين، وسط القفص ورفع يده ليعترف علي عدد من زملائه ومن بينهم اثنان من الذين سبق الحكم عليهم ويقضيان مدة حكمهما في سجن الواحات هما محمد شطا وزكي مراد. تابعت الموقف مذهولا وقضيت فترة طويلة فيما بعد اتساءل عن العوامل التي دفعته لهذا السلوك. وكان عاملا ومحترفا ثوريا لطيف المعشر.


استمرت المحاكمة ثلاثة أشهر ودع شهدي في نهايتها القضاة وطالب بالافراج عنا للمساهمة في بناء الوطن كجنود مخلصين لـ" حكومتنا الوطنية ولرئيسنا جمال عبدالناصر ". وختم كلمته بالهتاف بحياة الحكومة الوطنية ووحدة الصف العربي ووحدة الصف الوطني.

> > >
نقلنا عقب انتهاء المحاكمة مباشرة الي معتقل أبي زعبل الملحق بالليمان الشهير في ضواحي القاهرة. ولم يكن اغلبنا يعلم ان احدي الصفحات السوداء في التاريخ السياسي المصري الحديث تكتب فيه.


غادرنا الاسكندرية بعد منتصف ليلة 15 يونيو في سيارات " الترحيلات " الكبيرة المغطاة وجاء نصيبي في سيارة واحدة مع شهدي الذي تميز بقامة طويلة وعظام عريضة بينما كنت ومازلت نحيف البنية ضئيلها. ولهذا السبب اختار ان نشترك معا في القيد الحديدي لمعصمينا. وقضينا الوقت في حديث عن الكاتب الأمركي هيمنجواي وكان يرفع يده بين الحين والأخر ليتناول مشطا صغيرا من جيب سترته الأعلي ويمر به علي شعره الخفيف وهي عادته في لحظات القلق.

وصلت بنا السيارات في الخامسة والنصف صباحا الي ساحة تحيط بها أكوام من القاذورات وتشرف عليها فرقة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة والضباط المزودين بالسياط فوق خيولهم، يقودهم حسن منير مدير المعتقل، وبينهم ضابط بشوارب مرفوعة الي اعلي.. وصدرت الينا الأوامر -التي تخللتها الشتائم- بالجلوس القرفصاء وخفض الرؤوس. ومن الطبيعي ان رأس شهدي كان بارزا بسبب طول جسمه فصاح به احد الضباط وهو يضربه بالعصا علي عنقه (عرفت فيما بعد ان اسمه النقيب مرجان اسحق مرجان)..

- وطي راسك ياولد.
ولمحته بطرف عيني يضرب شهدي بالعصا علي رقبته، وانهال ضابط اخر بالسوط علي بهيج نصار الذي كان قريبا مني ولا يتحكم عادة في تعبيرات وجهه وهو يصيح به:
- انت مشمئنط ليه يابن القحبة
انصرمت ساعة ونصف ونحن علي هذا الوضع حتي لم أعد أشعر بساقي ثم سمعت صوتا يصيح:
- فين هو شهدي؟
وارتفع صوت شهدي قائلا: أنا هو.
ولعله ظن في تلك اللحظة ان تدخلا سياسيا ما قد تم وانه استدعي لحوار سياسي او لاستثنائه من التعذيب، بحكم سنه ومكانته الاجتماعية والسياسية. لكن النداء عليه لم يكن الا ايذانا ببدء الحفل.

> > >
وفجأة جاء الرائد صلاح طه الذي كان يرتدي بزة مدنية كحلية اللون واعطي ورقة لأحد الضباط. وسمعت اسمي واسماء ثلاثة آخرين من زملائي هم: ابراهيم المناسترلي وسعد بهجت وعبدالحميد السحرتي. اخرجونا من الصفوف وامرونا بالجلوس القرفصاء. ورأيت زملائي يجرون وخلفهم ضابط علي حصان. ثم صدر الينا امر بالوقوف وارتفع صوت قائلا:

- اجر يابن الكلب.
جريت مع زملائي وسط صفين من الجنود مزودين بأحجام مختلفة من العصي والشوم. ومازلت اذكر وجها ريفيا شابا، يخلو من أي تعبير، بينما يهوي صاحبه علي جسدي بعصا في سمك جذع الشجرة. وابصرت امامي مائدة طويلة اصطف خلفها عدد من الرجال في ملابس عسكرية ومدنية يرتدون النظارات الشمسية السوداء ميزت بينهم اسماعيل همت بجسده السمين وملامحه التركية والحلواني مدير سجن الاسكندرية وسعد عقل رئيس مباحث الاسكندرية ومعاونه السيد فهمي - الذي صار وزيرا للداخلية في عهد السادات- وصلاح طه.

امرونا نحن الأربعة بان نجلس القرفصاء في جانب ونضع رؤوسنا في الأرض ففعلنا ثم امرونا ان نرفع رؤوسنا بحيث نري ما يجري لزملائنا. وتتابعوا امامنا: يجردون من ملابسهم وهم يضربون ويترنحون عرايا وهم يلهثون ويغمي عليهم فيغمسون في مياه ترعة صغيرة ويداسون بالأقدام. ورأيت ابراهيم عبدالحليم وهو عار يلهث من الضرب الذي كاله له يونس مرعي. وترددت الأصوات الآمرة:
- انت شيوعي يابن الكلب، قول انا مره.
- اسمك ياولد، قول انا مره.

انصرف جميع الجالسين امامنا وخلت الساحة الا من اللجنة ونحن الأربعة. امرونا بالمشي حتي صرت امام همت فسألني عن اسمي. وردد احد الضباط:
- اسمك يا ابن القحبة.
- بصوت أعلي
- قول أفندم.
- بصوت أعلي..

ثم قال همت للعساكر خدوه. وفي ثوان تم تجريدنا من ملابسنا الخارجية والداخلية حتي صرنا عرايا دون ان تكف الشتائم والضربات. وركعت امام حلاق جز شعر رأسي وعانتي دون أن يتوقف الضرب بالشوم. ثم اعطاني احدهم لفافة من ملابس السجن وبرش وبطانية خفيفة. وصاح آخر:
- نام علي ضهرك. قول انا مره.
بدأ الضرب من جديد. رأيت صلاح طه يقترب وسمعته يقول:
- كفاية.
جرني أحدهم علي ظهري فوق الرمال بطريقة السحل التي ذاع امرها في " أحداث العراق" . وكان في انتظاري علي باب المعتقل الضابط عبداللطيف رشدي بجسمه الضخم راكعا علي ركبته، ارتفعت قبضته في الهواء وتسمرت عيناي علي بقعة دماء فوقها ثم التقت بعينيه الباردتين.

اتجهت قبضته نحوي وقبل ان تلمس رأسي تدخل صلاح طه مرة اخري امرني رشدي بالوقوف وبالجري حتي باب العنبر حيث انتظرني الصول مطاوع.

كانت هستريا " المرأة " قد استولت عليهم جميعا فلم اكد اقترب منه حتي انهال عليّ بعصا رفيعة وهو يقول:
- قول انا مره.

دخلت العنبر فوجدت زملائي واقفين امام الجدران رافعين ايديهم الي اعلي وبعضهم راكعون علي الأرض. وكان النقابي المخضرم احمد خضر يجلس مذهولا وهو يتمتم: العصافير. العصافير. وتصاعدت من الباقين الأنات والتأوهات.

وفي المساء تبينا ان شهدي واربعة اخرين هم جمال غالي ومبارك عبده فضل ومحمد عباس وعادل حسين غير موجودين معنا.. وكان العنبر عبارة عن ردهة مستطيلة تنتهي من ناحية بباب مصفح ومن الناحية الاخري بدورة مياه. وتشرف عليها نوافذ عالية بقضبان حديدية. وحملنا احد الزملاء فوق الأكتاف حتي اصبح رأسه في مستوي النافذة وتمكن من مخاطبة معتقلي العنبر المجاور. هكذا علمنا بوفاة شهدي.

ساد الصمت والوجوم وعندما هجعت للنوم كان جسمي كله يؤلمني برغم اني لم اتعرض لضرب كثير. ولم اتمكن من النوم الا بعد ان استمنيت خفية.

>>>
استيقظنا في الصباح علي صوت غريب متكرر لم اتبين طبيعته الا عندما دخل الصول مطاوع مع الحراس وصاح:

- وشك في الحيط وفك الحزام.

ادرنا وجوهنا للحائط وفككنا احزمة سراويلنا. وتردد الصوت الغريب المتكرر: تش تش. تش تش. مقتربا مني. ثم انهال حزام جلدي علي ظهري جيئة وذهابا محدثا الصوت الغريب. بعد لحظات توقف الضرب وانسحب الحراس ثم انغلق باب العنبر وساد السكون.

انفتح الباب من جديد بعد قليل وتردد صوت الصول مطاوع يأمرنا بالوقوف في انتباه. ثم نادي علينا انا والزملاء الثلاثة الذين نجوا من القسم الأكبر من التعذيب. وقادنا الي مكتب الضابط يونس مرعي الذي رافقنا في رحلة الواحات. وكان بالغ النحافة اصفر الوجه ذا حركات عصبية.

>>>
وقفنا أمامه في انتباه مطرقي الرؤوس فأمرنا بصوت متوتر أن نخلع ملابسنا. ثم امرنا ان نعطيه ظهورنا. ولمحت بطرف عيني جانبا من يده في مرآه طويلة وقد تغطي احد اصابعها بضمادة.

تأمل ظهورنا ثم امرنا ان نرتدي ملابسنا وصرف اثنين منا، هما السحرتي والمناسترلي. وبقيت انا وسعد بهجت.
قال وهو يخطو امامنا اننا سننتقل بعد قليل الي المبني الرئيسي لليمان لنمثل امام النيابة وندلي بشهادتنا في واقعة وفاة شهدي، ونقول انه توفي في الطريق قبل وصولنا الي المعتقل. واضاف انه لاتوجد ثمة اصابات واضحة في ظهرينا مما سيؤكد اقوالنا.
لم ينتظر منا اجابة ولم يكن في حاجة الي ذلك اذ كنا شبه مشلولين. وصحبنا الصول مطاوع الي حجرة خالية فوقفنا ووجهانا الي الحائط. همست لزميلي متسائلا:
- حنعمل ايه ياسعد؟
رد عليّ بانه سيقول ان شرفه العسكري يمنعه من تنفيذ هذا المطلب. كان صيدلانيا وضابطا سابقا بالجيش. وكنت محروما من هذا الشرف.

عقبت: طب وانا اقول ايه؟
لا أذكر أني مررت في حياتي كلها بلحظة شعرت فيها بالوحدة التامة كما كان شأني آنذاك. وشل الرعب تفكيري وارادتي وصرت مثل »الروبوت«، المستعد لتنفيذ كل ما يطلب منه.

امرنا الصول بعد قليل ان نتحرك وعاد بنا الي العنبر. عندما اقتربنا منه رأيت عدة اشخاص في ملابس مدنية يغادرونه. وعرفت عندما دخلنا انهم من كبار موظفي وزارة الداخلية، وان احدهم دمعت عيناه عندما رأي آثار التعذيب علي الظهور.

وبعد قليل جاء يونس مرعي واخد اربعتنا الي الغرفة الخالية مرة اخري.

قال: انتم شايفين المشرف علي المسائل دي المباحث. تحقيق النيابة حيروحلها وبعدين نوريكم شغلكم. انا عاوزكم تقولوا انه حصل هياج وهتاف وبعدين حصل الضرب.

في هذه المرة كنا قد استعدنا شيئا من آدميتنا فرد عليه ابراهيم المناسترلي قائلا: مقدرش يا أفندم. وكررت العبارة- وعيني في الأرض- عندما جاء دوري.

صاح في عصبية: طيب روحوا العنبر.

ولحسن الحظ ان الموقف تغير تماما بعد لحظات. اذ اقتحمت النيابة مبني المعتقل وامام مكاتب صغيرة انتشرت في ساحة المعتقل وادلينا جميعا بشهاداتنا عما حدث.

>>>
كانت زوجة " شهدي" قد اقتفت اثرنا من الاسكندرية الي أبي زعبل في سيارتها الخاصة وسمعت من الحراس بمصرع زوجها. وظهر نعي له في جريدة " الأهرام "، (لم تكن الرقابة المفروضة علي الصحف تهتم بصفحة الوفيات). وتضمن النعي- الذي اعده الشاعر محمود توفيق- السجين الشيوعي السابق وصهر يوسف صديق- عدة ابيات من شعر ابي تمام في الرثاء استهلت بهذا البيت:

فتي مات بين الطعن والضرب ميتة.
تقوم مقام النصر ان فاته النصر.
المحت هذه الأبيات الي الظروف التي جري فيها مصرع شهدي وتناقلت وكالات الأنباء الخبر. وكان عبدالناصر وقتها في بلجراد. ودعاه تيتو لحضور مؤتمر شيوعي. ووقف مندوب يوغوسلافي وسط الجلسة المهيبة ووجه التحية الي " ذكري الشهيد الذي قتل في مصر بسبب التعذيب". وتعرض عبدالناصر لسؤال من أحد الصحفيين عن الأمر فقال: لم نقتل أحدا ومن يخرج علي النظام يقدم للقضاء العادل. لكنه أبرق لوزارة الداخلية بالقاهرة باجراء تحقيق عاجل في الحادث ووقف التعذيب وترحيل المعتقلين إلي مكان اكثر امنا.

>>>
ارتني هذه التجربة بشاعة القهر وما يؤدي اليه من اهدار للكرامة الانسانية وعلمتني النظر الي الانسان ككل متكامل مؤلف من نقاط قوة ونقاط ضعف. واحتل هذا الموضوع مكان الصدارة من تفكيري بعد ذلك فيما اعقب ذلك من احداث.


نقلنا بعد عشرة ايام الي سجن القناطر في انتظار صدور الاحكام وبعد عدةأ شهر مثلت مرة اخري امام المحكمة العسكرية لاسمع الحكم عليّ بسبع سنوات مع الأشغال الشاقة. وبعد قليل نقلنا الي سجن الواحات.

تجمعنا في الزنازين الواسعة التي لايقل عدد أفراد الوحدة منها عن اربعة عشر نزيلا. وصارت مثل المختبر العلمي للسلوك البشري ولقصص الحياة. فقد ضمت بين نزلائها صحفيين وعمالا وكتابا واساتذة جامعات ومزارعين وطلابا ونوبيين وفلسطينيين ايضا. وداخلها جري صراع حاد بين التيارات السياسية وبين التكوينات الشخصية علي اختلاف مميزاتها.

>>>
اعتمدنا لفترة طويلة في تزجية الوقت علي الألعاب الجماعية التي تتناول موضوعات ثقافية متنوعة وعلي ذكريات ونوادر الحكائين وكان البعض يتمتعون بذاكرة قوية ويحيدون سرد قراءاتهم مثل جمال غالي وكان صلاح حافظ يعشق ام كلثوم ويجيد ترديد اغانيها. وصار الاثنان نجمين تتنافس الزنازين علي استقبالهما ويتم تهريبهما من واحدة الي اخري في امسية يمارسان خلالها موهبتهما.


والفت ان اترك الأحاديث والحكايات تحملني علي اجنحتها. فاتخيل نفسي في أماكن غريبة: علي شواطيء البحر الأحمر او في غابة وحوش أو في صحراء لا نهاية لها، وصاعدا جبالا من الثلج او نائما في خيمة علي حافة بركان أو متفرجا من أعلي ناطحة سحاب. وكنت اصوغ لنفسي في كل ليلة حياة مختلفة: فلاحا يجمع القطن أو بحارا في مركب يتنقل بين الموانيء او حمالا في ميناء او متسلقا للجبال أو صيادا يبدأ يومه بالليل أو عاملا في عنبر من آلاف العمال والآلات او عالما في معمل كبير مملوء بالأنابيب والتحاليل والاكتشافات او صحفيا يلف العالم ويعيش بقلمه واعصابه اخطر الأزمات والأحداث. حيوات متعددة مثيرة استهوتني كلها وأردت ان اعيشها جميعا.

>>>
كان الطعام الذي يقدم الينا بالغ السوء فسعينا الي الاشتراك في العمل بالمطبخ العام واحدثنا تحسنا في نوعية الطعام ادي الي نقص كميته. وهنا ظهرت فكرة انشاء مزرعة تزودنا بما نحتاج اليه من خضراوات من ناحية وتمتص طاقتنا ايضا كما تقدم مثالا علي ما نستطيع انجازه في اصعب الظروف. واحتاجت هذه المزرعة الي سماد عضوي امكن توفيره من خلال " الترنش " وهو مجمع للصرف الصحي خارج الأسوار علي شكل مستنقعات. فتكونت فرق مهمتها النزول الي هذه المستنقعات وخلطها بالرمال. كما تطلبت خزانا للمياه. فجري حفر حوض كبير وتبليطه بالحجارة. ليستقبل مياه الآبار. وفي هذا الخزان تعلمت السباحة.


نجح مشروع المزرعة وظهر انتاجها من الخضراوات الذي كان يوزع علي الزنازين بالدور فيسهر نزلاؤها في اعداد وجبة جيدة علي نيران »التوتو« وهو مصباح بدائي يعمل بالزيت. وعندما ارتفعت قامة الفول الأخضر اغري منظر الحبوب السمينة الطرية البعض بمحاولة تخطي الدور. وتعددت حالات الاعتداء علي الحق الجمعي فتكونت فرقة لحراسة الحقل رأسها محمد عمارة (الدكتور والمفكر الإسلامي الآن). وكان ذا وجه متجهم بالغ الصرامة مما دفعنا- انا واثنين من الأشقياء هما كمال القلش وابراهيم هاجوج- لمداعبته. فتسللنا الي الحقل ورقدنا بين العيدان العالية ثم بدأنا في التهام حباتها الطرية اللذيذة ونحن نتابع قدميه اثناء تجواله حولنا.

اصبح باب السجن مفتوحا بصفة دائمة. فكان العاملون في المزرعة يخرجون اليها في أي وقت من الصباح الباكر حتي غروب الشمس ولا تغلق الزنازين ابوابها الا عند الغروب، وبالتدريج اصبحت مفتوحة ليلا ونهارا وتكتفي الادارة باغلاق باب العنبر فقط عند الغروب.

واتاح ذلك الوضع الفرصة لأنشطة متنوعة. فقد نظمت محاضرات عامة في الاقتصاد وتاريخ الفلسفة ودروس في اللغات والرياضة البحتة وعقدت مسابقات ادبية وندوات شعرية ومباريات رياضية وبخاصة في كرة القدم.

وصدرت صحف ناطقة عديدة ثم اسس عبدالستار الطويلة " وكالة انباء السجن " (واس) التي تجمع الأخبار من مصادر مختلفة أهمها اذاعات العالم ثم تذيعها بردهات العنابر (كانت البداية قبل سنوات عندما هرب كوربيل الي القلة المنفية منذ بداية الخمسينيات راديو ترانزستور قبل ان تعرف مصر هذا النوع من الأجهزة).

واقام وليم اسحق المعروف باسم الملك هو وداود عزيز مرسما تردد عليه عبدالوهاب الجريتلي (الذي غرق في النيل خلال رحلة قام بها الي السد العالي بعد الافراج، مماثلة للرحلة التي قمت بها مع كمال القلش ورؤوف مسعد) ومجدي نجيب والمهداوي وسعيد عارف وسعد عبدالوهاب وخصص حسن فؤاد مكانا للنحت وسط مجموعة شجرات في الفناء تردد عليه صبحي الشاروني.

ووضع فوزي حبشي تصميما لمسرح روماني في فناء السجن وصمم حسن فؤاد بالتعاون مع زهدي وداود عزيز وعبدالوهاب الجريتلي مسجدا شارك الجميع في بنائه.

امثال هذه المنافي تخلق وضعا لاتستطيع أي سلطة مقاومته فالحراس من جنود وضباط هم ايضا مسجونون بسبب المسافة التي تفصلهم عن العمران. ولا مفر من ان تنشأ بينهم وبين مسجونيهم مع الوقت علاقات انسانية. هكذا أمكن اقناع البعض بالقول وأغلب الأحيان بالمال لكي يجلبوا بعض الكتب عند عودتهم من العطلات ويدفنوها في رمال الصحراء. وفيما بعد يتم نقلها الي داخل السجن لتستقر في مخابيء تحت الأرض. هكذا تكونت مكتبة ضخمة ضمت قرابة عشرة آلاف كتاب وتوافرت الصحف والمجلات الفرنسية التي كان يرسلها كورييل من باريس مع الملابس والأطعمة والسكر طيلة عشر سنوات.

ولازلت أذكر اليوم الذي وصلتنا فيه "ثلاثية" نجيب محفوظ عقب نشرها مباشرة في ثلاثة مجلدات وكانت تنشر قبلا مسلسلة في مجلة »الرسالة الجديدة« التي رأسها يوسف السباعي. وكان الزميل المسئول عن توزيع الكتب يحتفظ بقائمة طويلة للرغبات يسجلها بعود محروق من الخشب فوق قاعدة صندوق سجائر. وعندما هرعت لاضافة اسمي امام " الثلاثية " وجدت امامي طابورا طويلا من الحاجزين. ولما كان المرضي يقدمون علي غيرهم في مختلف منافع الحياة المشتركة، من طعام وخلافه، فقد تظاهرت بالمرض. لكني اكتشفت ان امامي عددا كبيرا من المرضي الذين يحتاجون لتسلية لا تتوافر الا في هذا الكتاب بالذات. وتفتق ذهني عن حجة جديدة لتخطي زملائي فزعمت اني مقبل علي كتابة عدد من النصوص الأدبية وفي حاجة شديدة أكثر من غيري لقراءة الثلاثية لكي اتعلم منها. وفوجئت بان عددا لا بأس به من الزملاء قرروا ايضا ممارسة الكتابة الأدبية ويحتاجون جميعا لشحذ ابداعهم بقراءة نفس الرواية. بل كان منهم كتاب حقيقيون بالفعل مثل فؤاد حداد، ابراهيم عبدالحليم، محمد خليل قاسم، صاحب رواية " الشمندورة " الرائدة، ومحمد صدقي، الذي عرف باسم جوركي مصر، زكي مراد، محمود أمين العالم وعبدالعظيم انيس، معين بسيسو الشاعر الفلسطيني، فتحي خليل، الي جانب مشاريع كتاب عديدين مثل عبدالحكيم قاسم، سمير عبدالباقي، كمال القلش، فؤاد حجازي، حسين عبدربه، متولي عبداللطيف، مهران السيد، محمود شندي، كمال عمار، محسن الخياط، مجدي نجيب، رؤوف نظمي الذي اشتهر بعد ذلك باسم محجوب عمر وغيرهم.

والواقع اني لم أكذب عندما تذرعت بمشروعاتي الأدبية. فقد كنت اتحرق شوقا لوصف ما رأيت وسمعت وعرفت. وكتبت بالفعل- منذ وضعت قدمي في سجن مصر- عشرات القصص والروايات في.. رأسي! ولم ألبث ان ضقت بهذا الشكل من الكتابة واخذت اتطلع الي استخدام الورقة والقلم.

>>>
كان الزملاء قد احتفظوا بأجولة الأسمنت الورقية التي تخلفت من موقع البناء وتم تمزيقها الي شرائح جاهزة للكتابة. ولم يكن من الصعب الحصول علي اجزاء صغيرة من اقلام الرصاص. وسرعان ما تمكنت من كتابة اول قصة لي باسم " الضربة "، تصور رد فعل التأميمات الناصرية علي احد اصحاب الشركات الرأسماليين. وعرضتها علي ابراهيم عبدالحليم في مزيج من الزهو والخجل ثم تتابعت القصص.


لم أكن قادرا بعد علي تمثل تجاربي الشخصية فاعتمدت علي تجارب الآخرين. كتبت قصة بعنوان " بذور الحب " عن تجربة مر بها كمال القلش في طفولته. وعرض علي ابراهيم المناسترلي ان اكتب قصة حياته في حلقات مقابل ثلاث سجائر لكل حلقة. وبعد الحلقة الأولي ادركت اني لن اتمكن من المواصلة رغم الاغراء المادي! لم تكن هناك لذة في الكتابة لأني كنت اتعامل مع تجارب لم أعشها. ووجدت هذه اللذة عندما بدأت أصوغ بعض القصص من أجواء طفولتي. هكذا تلقيت درسي الأول: ألا أكتب عن شيء إلا اذا كنت اعرفه جيدا. وكان من الطبيعي ان تتحول الطفولة الي منجم غني بالنسبة للعمل الأول، الا اني لم البث ان توقفت عندما واجهت المشاكل التي يواجهها كل كاتب في بداية عمله: أي طريق بين عشرات الطرق والأساليب والمدارس والأشكال؟

>>>
في تلك الفترة كنت اشبه بجهاز رادار نشط يتحرك في كل الاتجاهات ليلتقط كل ما يثير المخيلة او يصلح مادة للكتابة او يساعد علي فهم العملية الابداعية والحياة نفسها. واخذت نفسي بجدية شديدة فأخضعت كل دقيقة في اليوم لهدف الكتابة التذكر، القراءة العلاقات الشخصية والاصغاء الي الآخرين. كنت قد قررت ان اصبح كاتبا.


وكنت انتهز فرصة الهدوء الذي يسود العنبر في الصباح عندما يغادره العاملون في المزرعة فالجأ الي فرشتي واسند الورقة والقلم الي ركبتي وانهمك في تسجيل كل ما يعن لي من خواطر. ويتكرر الأمر في المساء بعد اغلاق السجن وانصراف الحراس الي ثكناتهم القريبة. فبعد العشاء تفتح المخابيء ليتحصل كل واحد علي أوراقه أو " جواله " وقلمه. وحوالي منتصف الليل يعود كل ذلك الي مخبئه. ولهذا سعيت لان اصبح انا نفسي مسئولا عن المخبأ الموجود في زنزانتي كي اضمن مكانا لبنات افكاري. لكني لم اتمتع بهذه الميزة طويلا. ففي احد الأيام وبينما انا استخرج الكتب والأوراق ذات الرائحة الرطبة من المخبأ قام الحراس بحملة تفتيش مفاجئة ولم اتمكن من التصرف بسرعة فوجدوني متلبسا بالجريمة الكبري.

اقتادني الحراس الي مكتب المدير وفي اعقابي عدد من المسجونين من ذوي الشخصيات البارزة التي تمثلنا عادة عند التعامل مع الادارة، مثل شريف حتاتة وسعد عبداللطيف واحمد الرفاعي. وهناك جرت مواجهة عكست ميزان القوي الجديد في السجن. فقد دافع المندوبون عن حقنا في حيازة الكتب وهدد احدهم- فؤاد حبشي- باعلان العصيان اذا مسني اذي او صودرت المضبوطات. وقرر المدير ان يتراجع في هدوء ويتغاضي عما حدث وعدت منتصرا بكتبي وأوراقي.

>>>
كانت هذه المواجهة مؤشرا علي التحسن الذي طرأ علي وضعنا. فقد اصبحت الادارة تغض الطرف عن وجود الصحف والكتب. وصار في وسعي ان ألجأ الي المرحوم ابراهيم عامر ليترجم لي عن الفرنسية شفويا نص مقال عن جيمس جويس في " ماغازين ليتيرير"، تناول البناء الداخلي لرواية " يوليسيز " الشهيرة. وظهرت انواع افضل من الورق في صورة الكراريس المدرسية وتوافرت اقلام كاملة للكتاب الشبان من امثالي. كما اتيح لهم ان ينقلوا ابداعاتهم علي ورق لف السجائر الرقيق بخط دقيق يسمح بتهريبها الي الخارج. وبدأت افكر في رواية طويلة كتبت منها عدة فصول. بل احتفظت بيوميات دونت فيها خواطري ومشروعاتي القصصية وتعليقات علي الكتب التي قرأتها وأسماء كتب انوي قراءتها في المستقبل.


علي أن أبرز نتيجة لهذا التطورات هو رغبتي في ان يصبح لي انا الاخر كتاب. كانت هناك الآن عملية نشر واسعة للكتب السياسية والنظرية ولمساهمات الشخصيات البارزة بين المسجونين او من لهم تجربة في الكتابة. وفي هذه الحالة يتم تمويل عملية النشر من المال العام المشترك وتشمل هذه العملية ثمن الورق واجر الخطاط الذي يدون النص بخط جميل ويتفنن في كتابة العناوين ويتقاضي اجره في صورة سجائر معدودة. ولو كان المؤلف محظوظا لحصل علي رسوم بالحبر أو بالألوان المائية من حسن فؤاد أو غيره من الفنانين. وبعد ذلك تأتي مرحلة التجليد بواسطة الورق السميك الذي يتبقي من صناديق السجائر والطعام ويتم تثبيته بواسطة معجون من دقيق الخبز.

ومن الطبيعي ان هذه الخدمات لم تكن تتوافر لكل انسان وبخاصة اذا كان كاتبا ناشئا صغير السن مثلي. ولم يكن امامي سوي ان اعتمد علي نفسي فضحيت بجزء من نصيب السجائر اليومي واشتريت الورق وخدمات التجليد وتخليت عن الناسخ مستخدما خطي مكتفيا بان يكتب لي الخطاط العناوين بلون أحمر تم " تصنيعه " من دواء " الميركروكروم " المطهر للجروح. واصبح لي كتيب صغير من نسخة واحدة يضم ثلاث قصص قصيرة ومقدمة رواية بعنوان " خليل بيه "، لم اعطه عنوانا ولا وضعت اسمي عليه، ولا نشرت شيئا منه في المستقبل.

>>>
وأتاح لي اتساع حركة النشر فرصة الارتقاء الي مستوي أعلي. فقد قرر الزملاء اقامة معرض للكتب التي تم اصدارها داخل السجن. وتولي حسن فؤاد الاشراف علي اصدار طبعة خاصة من هذه الكتب بأغلفة ملونة انيقة رسم بنفسه بعضها.


وكنت قد ترجمت الي اللغة العربية جانبا من مذكرات الشاعر السوفييتي الشهير يوفتشنكو التي نشرتها جريدة صنداي تايمز الانجليزية علي ما أذكر. ورحب استاذ الرياضيات عبدالعظيم انيس بان اشترك معه بهذه الترجمة في كراس نساهم به في المعرض ويضم ترجمة قام بها لدراسة سوفييتية قيمة عن هيمنجواي.

تحدد يوم المعرض في أحد الأعياد التي تخف فيها القيود ويتغيب فيها عادة مدير السجن وصفت الكتب فوق عدد من الصناديق المغطاة بالقماش وضعت في الممر الفاصل بين الزنازين. كانت هناك روايتان لابراهيم عبدالحليم ومسرحية »الخبر« لصلاح حافظ بمقدمة لحسن فؤاد وترجمة عربية لرواية من الخيال العلمي السوفييتي اسمها " اندروميدا " لــ مجدي نصيف واخري لرواية المانية بعنوان " عريان بين الذئاب " قام بها فخري لبيب ودراسة عن ثورة 19 لفتحي خليل ومجموعات قصصية وشعرية بالاضافة الي عدد من الترجمات السياسية والنظرية الجديدة. ووسط هذه المجموعة ذات الأغلفة الأنيقة استقر كتابي الثاني (أو الأول حسبما تكون وجهة النظر) وتحققت لي اخيرا فرصة النشر " المحترم".

>>>
جري تهريب اغلب هذه الاصدارات الي الخارج وتمكنت انا من تهرب " كتابي الأول " بينما ضاع الكتاب الثاني الذي شاركت فيه عبدالعظيم انيس. كما هربت بضعة فصول من رواية باسم "الرجل والصبي والعنكبوت".


لم يقدر لي ان اتمها. ويبدو اني قررت في نوفمبر 63 نقل اليوميات والملاحظات المتفرقة الي ورق "البفرة" تمهيدا لاخراجها.

وكانت الافراجات قد بدأت بالمعتقلين ولم نكن نحن المسجونين علي ثقة من ان الافراج سيشملنا. وكنت قد احتفظت باليوميات حتي اخر لحظة خائفا من تعريضها لمغامرة التهريب. وتطوع حسين عبدربه- الذي كان من المعتقلين- لان يحملها عند الافراج عنه. وعندما خرجت اخيرا في منتصف مايو 1964 وجدت أوراقي كلها لدي اختي، وبينها المفكرة الثمينة.






* فصل من كتاب " يوميات الواحات "
لصنع الله إبراهيم

** ملف اخبار الادب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى