مصطفى ملح - الباطن.. قصة قصيرة

سِرْ، أسرع، لا تتراجع أبدا! نظرتُ فلم أبصرْ أحدا. كان ضوء القمر ينعكس على البحيرة، وكانت النّباتات من حولي مثل حبال مدهونة بالزّيت أو البنزين. انتظرت إلى
أن سكت الصّوت نهائيّا، وخفت أن يكون منبعثا من عقلي، والأمر جلل في كلتا الحالتين ؛ فلو انبعث من الخارج فهذا يعني أنّ المحيط ملغوم وأنّ خطراً خارجيّا يتربّص بي، ولو انبعث من الدّاخل فهذا يعني أنّ عقلي مصاب!
تقدّمتُ قليلا من البحيرة فرأيتها. امرأة بثوب أبيض وشعر يتدلّى مثل فاكهة الخريف، وكان خدّاها قطعتي أناناس ناضجتين. ونطق الصّوت من جديد: أسرع، لا تُبالِ، هي لك! وقبل أن أُقْدِمَ على الخطوة التالية جرّتني المرأة وسارت بي بعيدا. انتظرتُ صوتها، أو أيّ موقف تقوم به، لكنّها ظلّت صامتة مثل البحيرة. وعندما بلغنا منحدرا عشبيّا أوقفتني وقالت: اخلع عقلك! اعتبرتها مزحة لطيفة، لكنّها كرّرت الأمر ثلاثا. أريد مرتبكا وعاجزا. كيف أخلع عقلي؟ مرّت دقائق فأحسست بالحرارة في جسدي، وسال عرق كثير، وكنت أحسّ أنّ كلّ قطرة عرق هي إحساس أو فكرة أو تأويل، وقلت في نفسي: هل خلعت عقلي؟!
بدأت أرتجف، وأرتجف. خلعت المرأة قميصها وجفّفتني به. زال الارتجاف، بدأت أسخن مثل خبزة فوق موقد. اقتربت منّي وضمّني وجودها العذب، فشعرت بأنّني أتطهّر، أنمو، أولد. واتّفق أنّ سحابة متشرّدة مرّت فحجبت ضوء القمر، وسادت العتمة، ومرّ وقت طويل، فظهر القمر من جديد، وفتحت عينيّ، فلم أجد المرأة، ووجدتني أعانق نفسي في منحدر صامت، ونطق الصّوت من جديد: لا بأس، سِرْ إلى الأمام، لا تجفل!
تركت المنحدر والبحيرة وسرتُ. قميص المرأة على كتفي وعطرها في بدني وصمتها في قلبي. وتعبتُ كثيرا، كثيرا. سقطتُ ونمتُ. في الصّباح استيقظتُ بحال جيّدة ونفس راضية، قصدت البحيرة وشربت، وغسلت وجهي، ودعوت الله أن أجد الطّريق. طرق كثيرة مرسومة أمامي ولكنّ المرء يجد صعوبة في انتقاء الأفضل، أطريق الغابة؟ أم الزّاوية؟ أم الجماعة؟ أم الجسد؟ أم الخيال؟ أم طريق الله؟ وما طريق الله يا تُرى؟
وقادني الصّوت إلى طريق بين جبلين، فجّ عميق، تحيط به الأشجار والمتاريس الحجريّة المسنّنة، فرأيت كوخا يغشاهُ نور كأنّ نور النّهار لم يعد كافيا لصاحب الكوخ. تقدّمتُ ببطء وطرقت باب الكوخ، مرقتْ بالقرب منّي قطّة ثمّ عادت ووقفت فاقتربت وبدأت تتحسّسني، فاتّكأت وربتُّ على وبرها الرّطب، فماءت كأنّها تشكرني، ثمّ رفعت ذيلها ممتنّة راضية ورحلت. وأنا أرفع جسدي فُتِح باب الكوخ فرأيتها: المرأة التي خدّاها يشبهان قطعتي أناناس، اقتربت منها وقلت في نفسي: لن أتركك هذه المرّة حتّى ولو حجبت السّحب ضوء الشّمس. راعني أنّها كانت حزينة، وأنّ عينيها غامضتان قليلا، وأنّ صدرها شبه عارٍ، فانتبهت إلى الأمر وسحبت القميص من كتفي ووضعته على صدرها الخائف، وهو على كلّ حال قميصها يعود إليها، مع فارق أنّه سيكون حاملا لإحساسي وأنفاسي. انفرجت شفتاها عمّا يشبه ابتسامة. وسمعت الصّوت من جديد: تقدّم، لا تجفل، هيّا أسرع!
التحمنا حتّى صرنا واحدا. كانت بحيرتي وكنت غديرها. وخرجنا نجوب الأدغال، كانت تعرف أسماء النّبات والحيوان، وتفهم قليلا من لغات التّواصل عندهم. وفي مرتفع جلسنا، كنّا بعيدين عن الأرض قريبين من الشّمس. افترشنا بعضنا البعض وصنعنا النّشيد. وأثناء نزولنا حملنا بعض الأزهار والأعشاب، ثمّ عدنا إلى الكوخ، وأشعلتْ نور الفانوس، وسألتها:
- ألا يكفي ضوء الشّمس؟
- الشّمس كائن خارجيّ.. نحتاج أحيانا إلى ضوء لإنارة الباطن..
- وما الباطن؟
- جزيرة الذّات.. حيث المشاعر لم يمسسها غبار الوجود..
- وهذا الفانوس؟
- زيت الحاسّة.. ونار العقل..
- وكم تحتاج البشريّة إلى فوانيس ليُضاءَ باطنها؟
- لا تحتاج إلى فانوس أبدا!
- لماذا؟
- البشريّة مكتفية بنور الخارج.. ألم تكن كذلك قبل أن يقودك الصّوت إليّ؟
- أجل.. صدقت..
- والآن صرتَ تحتاج إلى الفانوس..
- أخبريني رجاء.. من صاحب الصّوت السّريّ الذي يقودني إليك؟
- هو صوت العقل!
- وأنت؟!
- أنا الفطرة!
خرجنا من الكوخ، وكنت مولودا جديدا، وسرنا نركض ونلهو ونلتحم حتّى نصير واحدا. ومضى النّهار وحلّ اللّيل، فنزلنا إلى الوادي وسمعنا تغريد طيور اللّيل البهيجة، وبعد ذلك قصدنا البحيرة، فغسلنا وجهينا ومسحنا رؤوسنا، وفي لحظة عشق استثنائيّة ضمّتني إليها وافترسني عطرها الجائع، ومكثنا جسدا واحدا لفترة طويلة من الزّمن، وبعد ذلك خُيّل إلينا أنّنا نمنا و حلّقنا بين الكواكب والمجرّات، ثمّ مرّت سحابة أخرى، لكنّها لم تكن متشرّدة، وإنّما مرّت عن قصد، فحجبت القمر، فانطفأت البحيرة ولم نعد نرى شيئا، واستمرّ العناق ساعتين أو ثلاثا حتّى خلته سيدوم إلى الأبد، ثمّ انحرفت السّحابة وظهر القمر في السّماء وقد انعكس جليّا على ماء البحيرة، وفتحت عينيّ فرأيت المرأة، لم أكن أعانقها، لم تكن تضمّني، بل رأيتها داخلي، أصبحت كيانا باطنيّا يسكنني، حينئذ شعرت أنّ القمر والشّمس ضوءان خارجيّان، وأنّني الآن فقط عثرت على ضوئي الباطنيّ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى