صفاء عبدالمنعم - المخزن.. قصة قصيرة

لم تكن تدرك جيداً،وبشكل قاطع،متى تعود بمفردها إلي هذا المكان مرة أخرى،كما وعدت النادل العجوز،وهى تنهض من مكانها بصحبة صديقتها التى رحب بها النادل ترحيبا حارا متواصلا،طوال مدة القعدة التى تجاوزت الساعتين تقريبا.
قضت فيها على أربع زجاجات من البيرة الساقعة/المشبرة كما كانت تقول للنادل فى كل مرة يأتى فيها ويقف بالقرب منهما،فكانت تحدثه بلثغة خفيفة من أثر الشرب المتواصل:اتنين بيرة مشبرة وحياتك.
وقبل أن يتحرك النادل من أمامها،مدت الأخرى يدها بمبلغ صغير وقالت له ضاحكة:هات لنا كيسين شيبسى كبير،وكيس فينو،وعلبة سجائر كيلوباترا.
وقبل أن ينصرف من أمامهما ملبيا الطلابات.قالت له بشكل حاسم،وهى تمد يدها بمبلغ إضافى:من فضلك هات علبة سجائر ميريت أصفر،وحياتك.
هز النادل رأسه وهو ينصرف من أمامهما مبتسما.
ثم واجهت صديقتها وهى تبتسم فى حزن بالغ:شفتى،أخرة خدمة الغز علقة.
هزت صديقتها رأسها فى حزن وآسى. بينما واصلت هى حديثها:بعد الخدمة ٣٥سنة وأكتر،أروح النيابة والمحكمة فى قضية،رغم أنى عملت الصح،وأخذت القرار الصواب.
هزت صديقتها رأسها،وأخرجت أخر سيجارة فى العلبة الكليوباترا،وأشعلتها،وبعد أخذ نفسا عميقا،مدت يدها واعطتها لها،وهى تشيح بوجهها بعيدا،وتمسح بعض الدمعات التى تساقطت فجأة من عينيها،ثم أخذت نفسا قويا وعميقا،ملأت به رئتيها رغم أنها لا تدخن،إلا أنها كانت تشعر فى هذه اللحظة بكم من الغضب والثورة وتساؤلات كثيرة تملأ رأسها:لماذا حدث كل هذا معها؟هى الأمينة،المكافحة،الحريصة كل الحرص على مصلحة العمل.
وعندما مدت يدها نحو زجاجة البيرة التى وضعها النادل منذ دقائق أمامها،وملأت الكوب إلي حافته ودفعته،دفعة واحدة داخل جوفها،ولم تضع الكوب إلا فارغاً.
والأخرى مازالت تنظر نحوها بعينى الشفقة والأحترام.
قالت مرة أخرى وهى تعطيها أخر نفس فى السيجارة،عندما رأت النادل قادما،بحمل الطلبات التى طلبتها منه.
ثم أفرغت باقى الزجاجة فى الكوب ودفعته إلي جوفها دفعة قوية،وأخذت من السيجارة نفسا عميقا وحبسته حبسا قويا بداخلها،ثم دفعته على فترات متقطعة،واطفأت السيجارة فى الكوب،وعندما أقترب النادل من المنضدة،ووضع أمامهما الطلبات.قالت له راجية،دون أن ترفع وجهها نحوه:من فضلك،إزازتين بيرة مشبرة.
مدت الأخرى يدها،وفتحت كيس الفينو،ووضعت بداخله الشيبسى المقرمش اللذيذ،ومدت يدها نحوها بواحد،وهى تضحك فى بطء وحزن:خدى يا حبيبتي،وحدى الله،إحنا من الصبح فى المحكمة وزمانك جعتى.
مدت يدها وأخذت منها رغيف الفينو،وقربته من فمها فى هذه اللحظة نزلت دموعها فى شلال متواصل،وكأن كل الحزن يريد أن ينفجر فى لحظة واحدة.
جاء النادل ووضع أمامهما زجاجتين جديدتين باردتين وكوبين نظيفين،ثم رفع الفارغ من أمامهما وهو يحاول أن يبتسم لهما،ثم وجه حديثة نحوها:وحدى الله يا أستاذة.
رفعت صديقتها عينيها نحو النادل مشيرة له أن يتركهما قليلا،ثم أنصرف فى هدوء شديد.
مدت يدها لها بسيجارة ميريت بعد أن أشعلتها لها وهى تضحك:اتفضلى يا قمر.
أخذت منها السيجارة المشتعلة وهى تحاول أن تسيطر على مشاعرها الصاخبة،ودموعها المنهمرة من شلال شاهق الإرتفاع،وقلبها يدمى ألما وحسرة على ما حدث.
مرت اللحظات بطيئة كأنها سجادة من القطيفة السوداء،وأخذت تدخن،وتشرب،وتأكل،وتدخن،وتشرب إلي أن أنهت الزجاجتين،وكانت صديقتها مازالت تنظر نحوها بعينين صامتتين، ولا تعرف ماذا تفعل تجاهها تحديدا،كى توقف هذا الغضب والحزن المندفع من داخلها بكل هذه المرارة،ونار الغدر تعلو وترتفع مثل موجات صاخبة.
بعد أن مر ما يقرب من الساعتين تقريبا،كان المكان قد بدأ يزدحم.نظرت صديقتها نحوها وهى تحاول أن تلملم مشاعرها: حبيبتي،أهدى،المكان أصبح يمتلئ بالزبائن.
مسحت عينيها،ونظرت نحوهم،وبدأت تحيهم برأسها،فهى تعرف معظم القادميبن بدرجات متفاوتة.
وعندما امتلأت القاعة بالأصوات العالية،وكثير من الناس بدأ بندفعون نحو الداخل،لدرجة أخذت تنظر حولها،كيف لهذا المكان الصغير أن يستوعب كل هذه الأعداد.
جاء النادل نحوهما مسرعا،وهو يرفع الزجاجات الفارغة،ويضع أمامهما زجاجة جديدة،رفعت يدها نحوه،وهى تشير له إشارة سريعة:كفاية.
وخرجت من المكان بصحبة صديقتها،وهى تنظر نحو الجالسين فى حوارات طويلة،وضحكات عالية،وتودعهم جميعا برفع يدها عاليا،تحية لهم قبل الانصراف.
وقبل خروجها إلي الشارع الواسع المزدحم الذى سوف يحتوى دموعها واحزانها.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى