محمد بن ربيع الغامدي - رجل ابتلع المدينة.. قصة قصيرة

عاد من المدينة خالي الوفاض، وحده الذي يعرف تفاصيل ما جرى، لا يعرف عن نكباته هناك أحد سواه، ولذلك كان جوفه يستعر نارا عند استعادة تلك الصور، وحتى لا يدري بمآسيه أحد روّض نفسه على الصمت وعلى البشاشة، فإن أرادها تسرية عن النفس قال متمتما: أهل المدينة نصّابون، قلوبهم نحتت من الصخر، أهل المدينة لا يرحمون أحدا.

شاربه الكث، صوته الأجش، عيناه النضاحتان ببريق المجهول، ابتسامته التي تسفر عن نصر، قامته المديدة التي يطوف بها سماوات القرية، تواضعه الآسر الذي يدني هامته بلطف حتى تلامس شغاف القرويين والقرويات، فضول القرويين والقرويات أنفسهم، كل ذلك خلق سؤالا عريضا ملأ فراغات القرية وشغل الناس: كيف استطاع هذا القروي الفذّ أن يبتلع المدينة؟!

لم يكن ليسمح لأي زلة لسان أن تغير صورته في القرية، ولم يكن ليسمح لتلك الصورة أن تزول من أذهان الناس، خبأ خيباته كلها وراء حجب من شارب وعينين وصوت وقامة وتواضع، أشبع فضول القرويين والقرويات ليبقى رجل القرية الذي ابتلع المدينة، الرجل الذي ينفق في كل يوم آلافا من الوعود تختلط بأنفاس القرويين والقرويات وتلوّن أحلامهم الجديدة.

يوما عن يوم كانت صورته تزداد مهابة وشهرته تحْجبُ عن البؤساء حتى زرقة السماء، ويوما عن يوم كانت وعوده تتساقط فوق الرؤوس مثل ندف الثلج وكان كاهله يزداد دكّاً، أنس إليه وبه ومعه القرويون والقرويات بينما أغلقت الوحشة مسارب فؤاده، قال لنفسه عندما وجدها ذات يوم على صفحة عاكسة: أنا على جناح التبريزي الذي تخلّى عنه حتى تابعه قفّه.

في ظهر القرية التي نامت على الأمل، عند ساعات الليل الأخيرة، توقفت سيارة بجوار التلّ، خرج من شجيرة كان يختبئ فيها، خرج منها قلقا يترقّب، ركب السيارة على عجل وانطلقت به قبل أن يتنفس الصبح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى